هذا يوم عودتي من سفر إلى المانيا دام أياماً ليست بالقليلة، وتزامنت مغادرتي لبنان هذه المرّة مع الإعلان عن أول إصابة كورونا فيه. وانسجاماً مع الحملات الإعلامية التي سادت بخصوص اتخاذ الاحتياطات المناسبة، بحثت قبل سفري عن الكمّامة المناسبة N 95، فلم أجدها في صيدليات المنطقة التي أسكن، وبسبب مخاوفي وحرصي استخدمت الكمّامة العادية التي على ما يبدو «ما حتشيل الزير من البير» ولكن ليطمئن قلبي.في مطار بيروت الدولي، شاهدت المضيفين والمضيفات كما عناصر الأمن العام يضعون الكمّامات النادرة الوجود، فيما عزلوا أيديهم بواسطة القفازات المطاطية كوسيلة حماية حسب اعتقادهم على ما يبدو. واقع جعلني أشعر بخطورة الفيروس أكثر وأكثر، كما جعلني أغبطهم على حصولهم على هذه الرعاية التي لم أتمكّن من الحصول عليها كاحتياطات للسفر.
لم توزّع علينا خلال رحلتنا إلى ميونخ في ألمانيا أي بطاقات أو إرشادات أو ما يُشير إلى حالة غير اعتيادية. وعندما وصلنا إلى الأراضي الألمانية، كان المشهد عادياً جدّاً لدى عناصر الشرطة، كما الموظفين والعاملين والمسافرين والمستقبلين على حد سواء، فلا كمّامات ولا احتياطات أو أي إجراءات استثنائية في بلد وصلت أعداد المصابين بفيروس كورونا اليوم إلى 240 إصابة.
كان لافتاً ما شهدناه من واقع ساد في الأندية والمطاعم والمتنزهات وأماكن الترفيه، والحدائق العامّة، وقاعات السينما، ومراكز الرياضة والمكتبات العامّة وأماكن النشاطات المتنوّعة، فجميعها مفتوح أمام الصغار والكبار على حدّ سواء بعيداً عن أي إجراء أو قيود تُذكر.
مشهد لم ينسحب على ورش العمل والمؤتمرات كافة، فقد أُلغي بعضها وأبقي على الآخر... بينما كان لافتاً إبلاغ موظفي العديد من الشركات بضرورة نقل أجهزة الحواسيب الخاصّة بأعمالهم يومياً من مراكز العمل إلى منازلهم تحسّباً لأي طارئ قد يحصل، عندها يتسنّى للموظفين في حال أصيب أيّ منهم بالعدوى، أو في حال تقطّعت أوصال التنقّل بين منطقة وأخرى إنجاز أعمالهم حيث أماكن وجودهم.
وصلتُ إلى الأراضي الألمانية أثناء عطلة المدارس الفصلية في مقاطعة بافاريا، وهي فرصة تتيح للكثير من الألمان أن يقصدوا إيطاليا للاستجمام، البلد الجار الذي أصابته هذا العام لعنة فيروس كورونا. واقع جعلنا نعتقد أنّ الحضانات والمدارس لا شك ستغلق أبوابها خوفاً من تفشّي الفيروس. لكنّنا فوجئنا ببيان أرسلته إدارات هذه المؤسّسات إلى أولياء أمور التلامذة، طلبت منهم عدم إرسال أولادهم في حال قضوا عطلتهم في بلاد موبوءة، شرط أن تظهر على أولادهم علامات المرض من حرارة وسعال وعلامات تشبه مصابي الكورونا. الصدمة الكبرى كانت ترك القرار والخيار للأهل، كلٌّ بحسب ظروفه وإمكانياته في تنفيذ هذا الطلب.
تسنّى لي خلال فترة إقامتي زيارة بعض حضانات الأطفال ومدارس في المنطقة، كما العديد من الأماكن العامّة، فلم أجد أيّ إجراءات غير اعتيادية، سوى إعلام التلامذة بضرورة غسل الأيدي بانتظام وبطريقة معيّنة تضمن نظافتها تماماً، ووُضعت لهذه الغاية علب تعقيم اليدين عند مداخل الحضانات لا أكثر.
في الوقت ذاته، أعلن وزير داخلية ألمانيا احتمال عزل بعض المناطق وإغلاقها حال تفشّي الفيروس فيها، عندها خلت بعض الرفوف داخل مراكز التسوّق «السوبر ماركت» من العديد من المواد والسلع الغذائية كالمعكرونة، والخبز، ورب البندورة، والكورن فليكس، وبعض المعلبات، وذلك بسبب تهافت المواطنين على التموين خشية البقاء في منازلهم من دون سابق إنذار.
ما زاد الطين بلّة، كما يقال، هو فقدان أقنعة الوجه «الكمّامات» الطبية من الأسواق برمّتها، كما من أماكن التسوّق عبر الإنترنت، منذ اللحظة الأولى لسريان المعطيات عن الكورونا، أمر انسحب على سوائل التعقيم على أنواعها، وسعيد الحظ من يحظى بكمّامة يدفع ثمنها 25 يورو عدّاً ونقداً.
عكست الصورة، وفكّرت في المشهد السائد في لبنان، وما أتابعه وأشاهده من تقارير وتعليقات تطالعنا عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي المتعدّدة عن هذا الفيروس، وكيف يصبح كل مواطن اختصاصياً وقاضياً وموجّهاً وناقداً وما إلى ذلك... حينها استحضرتني مقولة #بدنا_وعي لتعمّم على كل حدث عايشناه ونعيشه في بلادي، ويبدو أنّنا لم نبلغ حدوده بعد.

* باحثة في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا، أستاذة جامعيّة وإعلاميّة