القاهرة | تبقى طوال اليوم أسيراً أمام شاشة التلفزيون، تتنقل حتى مطلع الفجر بين قناة وأخرى، تشاهد مسلسلات تعرف أنّ أغلبها مصطنع، معلب، لا فنّ حقيقياً فيها إلا الاستثناءات. تضيع من عمرك ساعات طويلة في قصص مستهلكة، وأفكار مقتبسة، وأداء تمثيلي «خارجي»، وتصوير زخرفي، وفوق ذلك مطّ وتطويل لملء ثلاثين حلقة بمادة قد لا تحتمل أكثر من سبع أو تسع أو 19 حلقة. وفوق ذلك كله وابل من الإعلانات يزيد على زمن الحلقة نفسها، بل يصل إلى ضعف الوقت أحياناً. أنت تعلم ذلك، لكنك لا تقوى على المقاطعة، لأنك تنتظر أن تشاهد شيئاً جديداً جيداً، أو لأنك لا تريد أن تفوتك أحاديث الفايسبوك، أو أن تغرد على تويتر خارج السرب، أو لأنك، مثل كاتب هذه السطور، عليك، بحكم عملك، أن تشاهد وتكتب عن التلفزيون في رمضان!أول ما يلفت النظر في دراما هذا العام هو المستوى الفني العالي لعدد لا بأس به من الأعمال، على الأقل في الحلقات الأولى التي عرضت حتى الآن. هناك أعمال تقرن بأسماء مخرجيها ومؤلفيها أكثر مما تقرن بأسماء النجوم مثل «ليالي أوجيني» لهاني خليفة، و«طايع» لعمرو سلامة، بل لا يمكن أيضاً إغفال أسماء مخرجي أعمال تعتمد أساساً على أسماء أبطالها، مثل «بالحجم العائلي» ليحيى الفخراني، الذي تخرجه هالة خليل، أو «رحيم» لياسر جلال الذي يخرجه محمد أسامة، أو «كلبش 2» لأمير كرارة الذي يخرجه بيتر ميمي، أو «اختفاء» لنيللي كريم الذي يخرجه أحمد مدحت، أو «أبو عمر المصري» لأحمد عز، الذي يخرجه أحمد خالد موسى، أو «مليكة» لدينا الشربيني الذي يخرجه شريف اسماعيل. وربما لاحظت أن بعض هؤلاء المخرجين أتوا من عالم السينما، وأن بعضهم من الأسماء الجديدة الواعدة.
ثاني ما يلفت هو الموضوعات المتشابهة التي تتكرر في عدد من المسلسلات بشكل «مريب»: رجال الشرطة الشرفاء في حربهم ضد الإرهاب والإجرام في مسلسلات الأكشن والتراجيدي وعصابات اللصوص الظرفاء في المسلسلات الكوميدية. وسوف نعود لمناقشة هذه الأعمال لاحقاً، لكن ما يلفت أيضاً هو بعض التفاصيل الصغيرة الطريفة المرتبطة بالتشابهات السابقة، مثل امتلاء مسلسلات الأكشن بالشوارب الكثيفة فوق وجوه أبطالها، في سينما ودراما لم تعرف نجوماً بشوارب من أيام رشدي أباظة، بدءاً من محمد رمضان في «نسر الصعيد» وأمير كرارة في «كلبش» إلى عمرو يوسف في «طايع» وهاني سلامة في «فوق السحاب» حتى لحية ياسر جلال الكثيفة في «رحيم». تعج مسلسلات هذا العام بشوارب الشخصيات الرئيسية وغير الرئيسية، وخاصة في أدوار رجال الشرطة والسلطة والنفوذ.
في «رحيم»، لدى ضابط أمن الدولة إيهاب فهمي «لازمة» تتكرر، حيث يخرج من جيب سترته مشطاً يصفف به شاربه. أما في «مليكة»، فتقريباً كل رجال الأمن بشوارب، وأكبر شارب فيهم على وجه أحمد العوضي، باعتباره الأكثر تعبيراً عن القوة العضلية!
رجال هذا العام من النوع القديم، «الكلاسيكي» الذكورة إذا جاز التعبير، ليس فقط على مستوى الشارب والشكل الخارجي، ولكن أيضاً على مستوى الشخصية والسلوك، فهم يعتمدون على القوة البدنية وإجادة فنون القتال اليدوي والمسلح. كما أن شخصياتهم تتسم بالاستقامة أو كما تصف درّة لإحدى صديقاتها الضابط الشاب محمد رمضان بقولها: «واثق من نفسه» و«تقيل».
قبل هذا المشهد، كان «نسر الصعيد» قد أنقذ درة من شابين تحرشا بها في الشارع بضربهما «علقة» من النوع الثقيل، قام خلالها باستعراض مهاراته البدنية التي تفوق جاكي تشان وفان دام مجتمعين!
من الطريف أن هذا المشهد «النمطي» في السينما والدراما المصريتين ـــ قيام البطل بإنقاذ البطلة من شاب أو أكثر يتحرشون بها ـــ يتكرر في مسلسل مثل «ليالي أوجيني» الذي يلعب على منطقة مختلفة من مفاهيم الذكورة، وإن كان الاختلاف بين المشهدين يقول الكثير.
في «أوجيني» الذي يدور في الأربعينيات يتدخل ظافر العابدين، وهو بالمناسبة يعمل طبيباً وليس لديه شارب، لإنقاذ أمينة خليل من شابين «يعاكسانها»، على عكس التحرش الثقيل البدني الذي نراه في «نسر الصعيد»، وتدخل ظافر لا يكون بضرب الشابين أو نهرهما ولكن باستدعاء البوليس. يعني في الأربعينيات، الناس يستدعون البوليس لحل المشاكل بدون عنف، ولكن في الزمن الحالي البوليس هو الذي يعتدي بالضرب المبرح على شابين «يعاكسان» فتاة بدلاً من سحبهما إلى قسم الشرطة! هذان المشهدان النمطيان المعالجان بطريقة مختلفة، يكشفان الكثير مما يحدث في المسلسلات والمجتمع بشكل عام.
على العكس من دراما الأكشن التي تعج بالشوارب ويسيطر على بطولتها الرجال، نجد أن معظم الأعمال الكوميدية تدور حول رجال «ضعفاء» بلا شوارب ونساء قويات، تحت ضغط الفقر والظروف، يشكلون عصابة للسرقة والنصب، كما نجد في «عزمي وأشجان» الذي يتقاسم بطولته حسن الرداد وإيمي سمير غانم ونسرين أمين، و«خفة يد»، الذي يتقاسم بطولته محمد ثروت وأيتن عامر ومحمد سلام (بالمناسبة شخصية رجل الشرطة الذي يطارد العصابتين في المسلسلين، ويؤديهما محمد ثروت وبيومي فؤاد، لديهما شوارب!)، وأيضاً في «لعنة كارما» الذي تؤدي فيه هيفا وهبى شخصية زعيمة عصابة!
جرعة كبيرة من الميلودراما والعنف والجريمة والدماء


يقول أرسطو في كتاب «فن الشعر» إن الدراما نوعان، تراجيدي وكوميدي، والتراجيديا تتناول عادة عالم الآلهة وأنصاف الآلهة والملوك والرجال النبلاء، بينما تدور الكوميديا عادة حول الصعاليك والخدم والبسطاء والنساء. وليس هناك تطبيق لنظرية أرسطو أكثر من مسلسلات هذا العام!
من اللافت أيضاً أن معظم المسلسلات تحتوي على قدر كثير من العنف والجريمة والدماء، حتى عادل إمام (مسلسل «عوالم خفية»)، الذي يقترب من الثمانين، يؤدي دور صحافي يتعرض للخطر والاعتداء البدني عندما يهمّ بدخول عشّ الدبابير الذي يديره بعض كبار المجرمين.
يحيى الفخراني يقدم مع المؤلف محمد رجاء والمخرجة هالة خليل شيئاً مختلفاً عن السائد: مسلسل اجتماعي كوميدي يخلو من الجريمة والشر، لكن تحت هذا القشرة نرى مجتمعاً كاذباً قاسياً تتكشف حقيقته بمرور الحلقات. من اللافت، أخيراً، الميلودراما التي تغرق فيها معظم الأعمال، والميلودراما في أبسط تعريفاتها تعني الإفراط في التعبير عن العواطف و«الإفراط في مخاطبة العواطف». صحيح أن مسلسلات التلفزيون في العالم كله ترتبط بالإفراط، لكن بينما نجد في الدراما التلفزيونية الأميركية مثلاً جنوحاً إلى التقليل من المبالغات العاطفية وتقديم صيغ أكثر مخاطبة للعقل، نجد أن الدراما التلفزيونية العربية هذا العام تستغرق في مخاطبة الحواس تماماً، من خلال استخدام كل مقومات الدراما، والإمكانيات البصرية والسمعية، من قصة وأداء تمثيلي وموسيقى وأغان وتصميم معارك ورقصات وديكورات ومونتاج و«إيفيهات» كوميدية... من أجل استدرار دموع وضحكات المشاهدين، وضخ بعض الأدرينالين في أجسادهم الكسولة، بفعل الصيام نهاراً، والإفراط في تناول الطعام مساء!