لكنه استقال
استقال جابر عصفور قبل سقوط الطاغية بساعات. تنفّس الصعداء كثير من قرّائه وأقرانه، فيما رأى آخرون أن الأوان فات على إعادات النظر النقديّة. في الحقيقة، ما عاشه الدكتور خلال الأيام الصعبة الماضية، يسلّط الضوء على جانب أساسي من الحياة الثقافيّة في مصر. هذا البلد احتل فيه المبدعون والمفكرون والكتاب، موقع الصدارة بين النخب الوطنيّة، وشاركوا في مشاريع التنوير والتحرر ومواجهة الاستعمار وبناء الاستقلال ومعارضة النظام، وألفوا قوّة ضاربة يحسب لها حساب، لقدرتها على التأثير في الوجدان القومي ومخاطبة الرأي العام. ثم جاء عصر التدجين والاحتواء والتهميش الذي لعبه نظام مبارك بمهارة. جابر عصفور اختار المؤسسة الرسميّة، رافعاً شعار الإصلاح من داخل، والتعامل مع الأمر الواقع، والرهان على الهامش المتاح للدفاع عن المشروع التنويري في ظل النظام السياسي القائم. تلك كانت المفارقة الكبرى، والخطأ القاتل الذي وقع فيه جزء أساسي من النخب اليسارية والطليعية والعلمانية في العالم العربي، مشرقاً ومغرباً. لقد مثّل هؤلاء غطاءً إضافيّاً لاستبداد سلطة متواطئة على شعوبها، تنتج القهر ومعه كل أشكال الأصوليّة والعنف التي يدينونها، بدلاً من الوقوف مع الجماعة المقموعة التي تُرِكت فريسة للخيارات الراديكاليّة. ماذا لو كان طاعن نجيب محفوظ عميلاً لنظام مبارك، مثل مفجري كنيسة القديسين قبل أسابيع؟ جابر عصفور حمل تلك العلاقة الملتبسة بالسلطة حتى النهاية. كان بعض منه في ميدان التحرير، والبعض الآخر محكوماً بقبول الهديّة المسمومة. ثم عاد عنها «لأسباب صحيّة». لكن كل ذلك، صار الآن جزءاً من التاريخ. لقد ولدت مصر أمس من جديد.