«زقاق»* يصادف «يوم المسرح العالمي» هذا العام مع العيد العاشر لفرقة «زقاق» التي أسّسناها عام 2006، وتُشكّل دعوة صحيفة «الأخبار» للمساهمة والشهادة على المسرح في يومه، فرصة لنا لاستعادة التّفكير وإلقاء النّظر على تجربتنا وفهمنا لدور المسرح وطرحه وعلاقته بمحيطه وبيئته منذ عشر سنوات وحتّى اليوم.
تخرّجنا جميعاً في «فرقة زقاق» من قسم المسرح في «معهد الفنون الجميلة» في «الجامعة اللبنانيّة»، وهو المكان الذي طرح المسرح كفعل سياسي عند تأسيسه عام 1965 والذي يحتفل هذا العام بعيده الـ51.
كانت «الجامعة اللبنانيّة» المكان الذي طرح المسرح كفعل سياسي عند تأسيسه عام 1965
تمأسس الإحباط هناك من المسرح ودوره ومكانته في أواخر التسعينيات حين كنّا طلّاباً، فاستقبلنا أساتذتنا بالقول مرغمين: «شو جايين تعملو هون؟ روحو عملو شغلة بتنفعكن غير المسرح!». في تلك الفترة، شاع جوّ العبث في الغرف/ المسارح الثلاثة لقسم المسرح تحت الأرض. في مخزن ذاك المبنى قرب صخرة الروشة، صخرة الانتحار الرّنان، هناك، حيث أصحاب التّجربة وروّادها كادوا أن ييأسوا من ماضيهم، فصار ستانيسلافسكي معهم سوداويّاً حتّى الموت، وبيكيت قاتماً مكرباً، وأمسى بريشت بذاته عبثيّاً بلا قضيّة أو هدف. وُلِدنا من رحم الإحباط ذاك، ورغم ذلك، كان لا يزال في وجود أساتذة قسم المسرح ومؤسّسيه عبق التّجربة وكثافة الأمل وصدى الخبرات التي حملوا بها استمراريّة المسرح رغم قساوة الحرب والقتل والدّمار. أكسبنا عزمهم ذلك قوّة ويأسهم من النظام والمنهج حريّةً، ففهمنا منهم المسرح في أوقات الأزمة، وتعلّمنا منهم معنى أن نكون ونعمل سويّاً عكس الانشقاقات السياسيّة الطائفيّة في البلاد. شهِدنا معهم انفتاح المسرح وتحوّله إلى فنّ أدائيّ فرديّ بتأثير موجة ما بعد الحداثة، وعلى إعلان موت المسرح مراراً وتكراراً من بعض روّاده، حيث شاهدنا أعمالاً مسرحيّة عديدة تقتل «الفعل»، وتحطّم اللّغة، وتجعل من الممثّل على الخشبة مجرّد مؤدٍّ لا موقف له ولا مسؤوليّة. كان يحيط المسرح في حقبة ما بعد الحرب في لبنان حركة إعادة إعمار وإنكار للماضي، لم تشمل بإعمارها المؤسسات والسياسات الثقافية، مساهمة في تهميش الفكر، حيث أسّست لفعل قطع مع التّاريخ، قطعت معها إمكانيّة بناء القصّة، ونفت عنّا حقّ المعرفة والمساءلة والمحاسبة والتّأسيس لفعل جديد.
كان تأسيسنا «زقاق» فعلاً بذاته. موقفٌ جماعيٌّ مشتركٌ حيث هُمّش العمل الجماعي. كان لنا أن نعيد التّفكير ونطرح المسرح كفعل سياسيّ مسائلين مسؤوليّة الفرد/ الممثّل على خشبة المسرح وعلاقته بجمهوره وفعله وموقفه. من هناك بدأنا إعادة بناءٍ وسردٍ للقصّة من حيث مُسِخَت (في "هملت ماكينة" المتشرذمة لهاينر مولر)، كما تيقنّا من ضرورة العمل على كسر المركزيّة الثقافيّة في بيروت واجترار الفنانين لفنّهم حيث جمهور الفنّانين فنّانون. خرجنا إلى المناطق واحتكّ عقلنا وأسلوبنا الفنّي بإشكاليّات لم نكن لنتيقنّها من دون مواجهة مباشرة مع النّاس على اختلافاتهم وصراعاتهم الدمويّة. لم يخذلنا المسرح، كان هناك موجوداً حتّى في أحضان من لم يألفه يوماً، كان واثقاً وبديهيّاً، في مكانته ودوره الجمالي والسياسي والاجتماعي والفكري والثقافي. إنّه تلك المساحة الخام التي تستوعب الحياة أكثر من الحياة نفسها، حيث نصطدم وجمهورنا بأفقٍ لا نهائيّ حيناً، وحدودٍ تقيّد الفكرة من البوح حتى في لاوعينا حيناً آخر؛ اصطدام الممكن بالمستحيل، والمسموح بالممنوع. إنّه المسرح، النموذج الحياتي البديل. يسائل بذاته نمط الأنظمة التي تتحكّم بواقعنا. هو نظام فلسفي واجتماعي واقتصادي تشاركي يعيد الاعتبار إلى القيمة والمعنى. معنى أن نعيش سويّاً ونعمل سويّاً ونفعل سويّاً وأن نحمل معايير التأسيس الجديدة سويّاً، حيث تخفق مجالات عدة أخرى. للمسرح تكامل الفكر والممارسة، وشمول الحلم والتجربة. بجدليّته تلك نقف على حافة خشبته، أمام جمهوره، بين الخيال والواقع، نفتح الإمكان ونؤسّس الاحتمال، ونقيم معه كل يوم أرضاً جديدةً ووطناً جديداً.
* فرقة مسرحية لبنانية