في نهاية روايته الأخيرة البديعة «أيام وردية» (2002)، كتب علاء الديب نصاً موجزاً عن سيرته انتهى فيه إلى القول «كل ما أريده في النهاية أن أكون رجلاً صالحاً بجد، وأن أشنّ حربي الخاصة التي لا هوادة فيها ضد الكذب والنفاق أبشع خصائص الطبقة الوسطى».
يعرف العارفون بالسيرة المهنية للكاتب المصري الراحل أنّه بلغ ما طلب وودع الدنيا محاطاً بكل عبارات التقدير التي نشرها المريدون في وداعه الذي كان حاراً يليق بكاتب أعطى مثالاً نادراً على الاستغناء بالكتابة والرضى. هو رجل تمنينا لو لم نشيعه أبداً، فقد كان ناصعاً، سعينا اليه ولم يسع الى أحد، رحباً كحكاية لا نهاية لها ومطمئناً كأنه نهر، وراسخاً كجبل، وقلقاً كبركان، وواضحاً كأنه الإيمان.
ولعل أكثر ما يلفت النظر أنّه كاتب حظي بتقدير جيله والأجيال التي جاءت بعده بفضل الاستقامة الأخلاقية التي تميز بها. اعتبر مهمته الرئيسة اشاعة الجمال والتبشير به، الى جانب مكافحة صور الكذب والتضليل. رغم هذه الاستقامة، الا أنّ حياته لم تخل من صور العيش الفني المغامر والسعي من دون كلل وراء الاختلاف. لذلك ظل كاتباً معاصراً رغم انتمائه إلى جيل الستينات واستمد معاصرته من الاعتراف الذي ناله من كتاب الأجيال الأصغر الذين بشر بمواهبهم، فتحولوا جميعاً إلى رايات أمل ترفرف في ظلاله.
ولد علاء الديب عام 1939 مع بداية الحرب العالمية الثانية، وعرف طريقه إلى الحياة العامة عام 1952 حين كانت مصر على أعتاب «ثورة يوليو». اعتبر خروجه اليومي من ضاحية المعادي (حيث ولد ومات في البيت نفسه) إلى وسط المدينة رحلة لاكتشاف العالم بنهم لا ينقطع للمعرفة الأدبية والفنية، متأثراً على نحو واضح بشخصية الأب الذي كان يحمل اسماً غريباً هو حب الله بدلالة صوفية انعكست في ممارسات الأب الذي كان ديموقراطياً لم يحرم أولاده من هذا الحق في اكتشاف العالم. حق تزايد في قلب علاء الابن الأصغر بتشجيع من الشقيق الأكبر بدر الديب الذي كان كاتباً طليعياً وصحافياً مرموقاً واسع المعرفة بالفلسفة وآفاقها. خلال سنوات الجامعة، اختبر القلق المعرفي والإحساس العميق بالخسارة وقسوة التحولات. رأى كما كتب «تقزيم الوطن وتحول الجامعة إلى مصنع رخيص لإنتاج الأفكار المستهلكة». لكن من خلال مكتبة الجامعة وصداقات بوفيه كلية الآداب، تأثر بخلطة من أفكار الماركسية الوجودية، تضع ألبير كامو الى جوار أبطال بيكيت ويوجين يونسكو. لكن الأثر الأكبر بقي لتشيخوف وهمنغواي لأن العبث الأوروبي كان قشرة، والاشتراكية صارت تمثالاً رائعاً مطعوناً في القلب، ينزف دماً طازجاً.
يمكن اعتبار رواياته وثيقة على تراجع مصر وانكسارها عقب النكسة وموت عبد الناصر

وبعين الرائي، أبصر تحول الثورة إلى نظام، والمثقف اليساري من ثائر الى موظف بيروقراطي ضمن أجهزة الدولة الأيديولوجية، وتابَع تحول الأفكار إلى كليشيهات، وهو ما وصفه بتأميم كلمة الثورة بحيث لم تعش حرة كما ينبغي لها.
خلال سنوات الدراسة، راوح صاحب «زهر الليمون» (1987) بين الشغف بالأدب والفلسفة ودراسة القانون، إلى أن جاءته فرصة العمل في الصحافة في مجلة «صباح الخير» التي التحق بها بفضل صداقة شقيقه بدر مع فتحي غانم الذي كان يصفه دوماً بساحر الرواية والشطرنج. وجد علاء الديب نفسه يعمل الى جوار قامات أدبية وصحافية فذة في مدرسة الهواء الطلق «التي كانت المصنع الأول لمواهب مصر الأدبية والفنية». هكذا، جاور محيي اللباد، وصبري موسى، وعبد الله الطوخي، ولويس جريس ورؤوف توفيق. ظل يكتب تحقيقات صحافية ذات طابع أدبي ميّز المجلة في تلك الفترة، معتبراً أنّ دخوله الصحافة جاء عبر عالم مخصوص يقدر الفن، ويفهم الأدب. في ظل هذا المناخ، عرف أنّ الوضوح والبساطة لا يمكن أن يكونا عيباً. واجه الكتابة في القوالب الصحافية الجاهزة، وسعى لابتكار نص حر، فالأجر الوحيد الذي يحصل عليه الكاتب هو الفرح.
بدأ نشر مجموعاته القصصية الأولى «القاهرة» عام 1964 وواصل مع مجموعة «صباح الجمعة» (1970)، و«المسافر الأبدي» (1999)، «الشيخة»، و«الحصان الأجوف»، بالاضافة إلى ترجمة بعض النصوص التي كانت طليعية بمقاييس ذلك الزمن ومنها «نهاية اللعبة» لصموئيل بيكيت، وبعض نصوص بيتر فايس، وانغريد برغمان، وهنري ميللر، والكاتب المجري شاركادي امري.
في مراهقته وشبابه، جرّب علاء الديب الانخراط في تنظيمات دينية كعادة مراهقي ذلك الزمان وانتمى إلى جماعة الإخوان المسلمين التي خرج منها لينتمي الى تنظيم شيوعي. وفي الستينيات، انضم الى التنظيمات الناصرية ومنها جبهة التحرير والتنظيم الطليعي، وكان مجرد رقم في كل تلك التنظيمات التي كان الانضمام لها شرطاً من شروط ممارسة الصحافة التي فصل منها إحداها بتهمة الانضمام إلى مؤامرة ــ لم يكن يعرف عنها شيئاً ــ بغرض قلب نظام الحكم. تركت هذه التجارب أثراً مريراً رافقه طوال حياته وعبر عنه في الخيارات الفنية التي لجأ اليها وكانت بتعبيره «بديلاً للانتحار». انكبّ على الترجمة بمعونة غالب هلسا وابراهيم منصور في فترة ارتبكت فيها حياته، وكما كتب في مقدمة ترجمته لنص لوتسو «الطريق إلى الفضيلة» بغرض مواجهة هزائم خاصة وأخرى عامة وارتباك في الفكر والسلوك، وكثيراً ما تحدث عن تلك الفترة التي كانت مليئة بقلق معرفي وصل الى حد الاكتئاب ومغامرات كشف الكثير من ملامحها في نصه السبر ذاتي بالغ الفتنة «وقفة قبل المنحدر...
أبصر تحول الثورة إلى نظام، والمثقف اليساري إلى موظف بيروقراطي
من أوراق مثقف مصري 1952-1982» (1999). نص عذب أقرب ما يكون إلى بيان على معلّم يعطي مفاتيح الولوج لعالمه الأدبي الذي انتقل من القصة إلى الرواية القصيرة في أواخر الثمانينات من القرن الماضي مع نشر رائعته «زهر الليمون» (1987) التي كانت قطعة الموزاييك الأولى في جدارية فنية ضخمة يؤرخ فيها لتناقضات مثقفي الطبقة الوسطى وتحولاتها. وبعدها جاءت ثلاثيته «أطفال بلا دموع» (1989)، و«قمر على المستنقع» ( 1993)، و«أيام وردية» (2000). روايات تتقاطع فيها أحلام وهواجس وانكسارات علاء الديب الشخصية مع جروح أبطاله (عبد الخالق المسيري/ الدكتور فكار/ أمين الالفي). تحول هؤلاء إلى أيقونات كاشفة عن عمق الخسارة والخذلان التي عاشها جيل الستينات مع هزيمة 67 التي تحول معها علاء الديب نفسه الى «ميت» كما يشير في سيرته الكاشفة. جعلته السنوات التي جاءت بعدها «شيخاً بلا حكمة، رأى شرخ الزجاج الذي بدأ دقيقاً ثم اتسع وهو لا يرتق ولا يجبر لأنه تكوّن في نفسه».
تبدو نصوصه اجمالاً أقرب إلى محاكمات أو مراجعات يستنزف فيها ذاكرة أطفاله. ثمة سعي لبلوغ الفضيلة والاعتراف بتعثر الأحلام وقسوة الانتماء الى هذه الطبقة رغم أنّ الشعور بتخلفها ظل يدفعهم إلى مزيد من الانتماء، مزيد من الارتباط بهذا الحلم الساذج البسيط المستحيل هو أن يعيش الناس واقعاً جديداً.
في مستوى آخر من القراءة، يمكن اعتبار روايات الديب وثيقة عن تراجع مصر وانكسارها عقب النكسة وموت عبد الناصر الذي لم يكن ـ كما رآه ــ مجرد رئيس، لكنه كان شيئاً في نسيج الحياة. مع تردي الواقع المصري في ظل عصر السادات، جرب السفر الى الخليج ولم يتمكن من الصمود لأكثر من شهرين. كتب عن الخليج، لافتاً الى اختلال الخريطة القيمية انطلاقاً من هذه التجربة الذاتية التي بقي أثرها كما بقيت في روحه هواجس التفكير في سطوة الرقيب الذي كان محصلة سلطات عديدة ضاغطة على الروح. لم يكن هذا الرقيب الا ذلك البورجوازي المحافظ القديم الذي ظلت أشباحه تطارده. رأي علاء الديب مراراً أنّ حياته كانت فقط محاولة للخروج من عبء الانتماء الطبقي المتوسط بتناقضاته لأنّ هذا الانتماء أعجزه دائماً عن أداء ما اعتبره واجباً، وعن التحدث بكل الصراحة الممكنة.
عاش الديب من روحه وجسده تجارب المثقف البورجوازي الصغير إلا تجربة السجن، لكنه عاشه في بيته «عزلة ارادية» كصوفي داخل خلوة ظل ارتيادها مقصوراً على مريدين يعرفون أن يضاجع «كل ليلة جسد الحلم الميت والآمال المحبطة».
بعد تجربة فصله من العمل الصحافي قبل أن يعود اليه لاحقاً، ترسخت في نفسه قناعة أنّ السياسة طين لزج أو رمال ناعمة سريعة، إذ نزعت عنه تجربة المنع من الكتابة «الأمان الروحي». جعلت الكتابة الأسبوعية في مجلة «صباح الخير» بلا أهمية الى أن وجد بديلاً للهرب من مأزق البقاء بلا عمل تمثل في باب «عصير الكتب» الذي اقترحه لمتابعة الكتب الجديدة. باب تحوّل عبر 40 عاماً إلى منصة اعتراف بالمواهب على اختلاف أجيالها. وقد وصفه الراحل ابراهيم أصلان في المقدمة الإضافية التي أنجزها للكتاب الذي صدر بهذا العنوان، بأنّه «شهادة حرة على حقبة ثرية من تاريخ هذا الوطن».