الخامس والعشرون من أيار 2000: تاريخ من ورد ودم، من نور ونار، من فصول الجنوب الملوّنة عزةً وكرامة لتهدي الوطن نصره المؤزّر، وتكتب للعرب والمشارقة صفحة ناصعة لا لبس فيها في كتب الجغرافيا والتاريخ. نصرٌ لم تصنعه الديبلوماسية، وإنما سواعد وعرق وتضحيات الأبطال المرابطين بين عامل والجليل، والعدو الذي لم يعبأ يوماً بالمواثيق والمعاهدات الدولية الذي كان يروّج لنظريته الشهيرة: يمكن احتلال لبنان بفرقة موسيقية، بات لزاماً عليه أن يفكّر ألف مرة قبل أن يعتدي على تيننا وزيتوننا وتبغنا ومائنا وهوائنا. إنها ثلّة من الأبطال بعمر الورود، قبلوا بمعمودية النار وكان لزاماً عليهم هم أيضاً أن يبدعوا ويقاوموا ويكسروا معادلة: العين لا تقاوم المخرز... إنهم قدّيسو هذا الشرق الحقيقيون وكرامته الصافية و«الطربون» الندي في شتلة التبغ: بلال فحص ووجدي الصايغ وسناء محيدلي وهادي نصر الله وبلال عدشيت، اخترنا في «كلمات» أن نروي سيرة هذا الأخير، أحد صنّاع التحرير في 25 أيار ومطوّر سلاح ضد الدروع في المقاومة، أنزل بالميركافا أو «مركبة الربّ» هزيمة ساحقة بعد سنوات ستّ في وادي الحجير. من طفولته بين شتول التبغ، إلى مشاركته في العمليات النوعية في الشريط الحدودي المحتل، وصولاً إلى الملحمة الخالدة في وادي الحجير. هذا هو تاريخنا الذي يضع هالة النصر على رؤوس بلال ورفاقه وحكاياته التي يجب أن تُروى لئلّا ننسى. حكايات وادي الحجير وقلعة الشقيف وجبل الرفيع وكل زاوية في الأرض المباركة تُنبت زعتراً ومقاتلين: من هنا تبدأ الخريطة والكلمات
العمل الفني لحسين ناصر الدين


◄ طفولة في التبغ
(بلال يروي)

كنا نمشي في حقل التبغ المترامي وأمي «ترندح» بصوتها الشجيّ على أدهم خنجر: «كنّا طيور بالسما/ واصطادنا صيّاد/ ضابط بثلاث نجوم/ بشنقي راد/ بنهار جمعة والناس بالميعاد/ركّبوني جمل عالي وسايقو جلّاد/ ناس بيقولوا قِتِل/ وناس بيقولو مات/ وناس بيقولو: قطَع جسر الحديد وفات»... يأمرني أبي أن أضرب السكّة في التربة الجنوبية الغضّة وأفسح الطريق أمام سيل الماء المندفع نحو «البوج»، ثم أقوم بغرس الشتول الصغيرة واحدةً واحدةً في الثلم الطويل...لم أدرس قاموس الحقول في المدرسة التي كنت أهرب منها كلّ صباح بعد أن يُقرع الجرس، لكني أتحدّى أستاذ العلوم أن «يسمّع» مثلي أسماء الورود والأشجار والطيور والسحاب وعيون الماء فوق هذه القطعة المقدسة من الأرض: هذا «ذنب الخيل» الذي يعيش في المستنقعات وعلى حوافّ الينابيع والمطاحن في وادي الحجير، وتلك «كزبرة البير» وتسمّى «شَعر عشتروت» رمادُها يقوّي الشَعر، وهذا الزنبق الرقيق ينبت بعد أوّل أمطار الخريف فيعطي أزهاراً وردية تغطّي في ليلة واحدة أعشاب الصيف اليابسة، كنّا صغاراً نسميه الوحواح أو «مبشرة الشتاء» ونغني: «طلع الوحواح حضّر محراثك يا فلّاح». أما أكثر ما يثير في قلبي الشجن، فذلك النرجس «الطاسي» الذي تقول أمي إنه كان ذات يوم حسناء تجرّ شَعرها الأسود قرب «دوّار العذارى» عند الليطاني. ماتت وتحولت إلى هذه الزهرة لمّا رأت صورتها معكوسة في مياه البركة ولم تتمكن من بلوغها، أو تلك الوردة التي تعيش يوماً واحداً فقط ببتلاتها الصليبية التي تكسو الصخور العالية بلونها البنفسجي، وتَنبت بين جبال عامل والجليل. حذّرني أحد الرعيان مرّة حين مددت بيدي لأقطفها: «هذه الزهرة الرقيقة تشبهك يا بنيّ، عندما تنضج فيها الخردلة يسقط جدارها بينما يبقى الحاجز الغشائي الأبيض-كما الروح- مثبّتاً إلى الصخر في غشاء رقيق». أما شتلة التبغ، فتسمية أجزائها أيسر بكثير من درس تشريح جسم الإنسان في حصة العلوم الطبيعية: الأوراق الأقرب إلى الأرض هي «التكعيبة»، تتبعها صعوداً أوراق «التنوة»، ثم «الصليبي»، ومن بعدها «الرقبة»، وانتهاء بـ «الطربونة» التي تزيّن الشتلة من الأعلى وتتزيّن بالندى حين كنا نحمل «اللوكس»، ونعجّل إلى الحقول لقطفها قبل طلوع الشمس: شتلة التبغ رقيقة حتى أشعة الضوء كفيلة بكسرها، لذا تشكّها نساء الجنوب بأصابعهنّ الدقيقة في الميبر. كانت شتلة التبغ موضوع الإنشاء الأثير في الصفوف القليلة التي قضيتها في مدرسة القرية الرسمية، وأذكر أن الأستاذ احتفظ بورقتي حين وصفت عبق الشتلة برائحة كوفية أدهم خنجر المبلّلة بالعرق والدم حين عبروا به جسر الخردلي وساقوه إلى حتفه.

◄ غزال الصخور الأسمر
(الحاج حسام يروي)

كنّا نلهث كلّنا أثناء صعودنا إلى نقطة الحراسة في جبل صافي في تسعينيات القرن الماضي، بعضنا قد ترك التدخين والآخر يشتهي السيجارة بين تلك الأشجار الباسقة والملتفّة بأسرارها على بعضها، فيمرّرها «نَيّة» على شفتيه من دون أن يشعلها مخافة أن ترصد النارَ في زرزورها طيارة «أم كامل» التي تحوم فوق نقاطنا الموزّعة بين الجبل الرفيع ونبع الطاسة ومرتفعات اللويزة. فجأة خرج لنا ذلك الفتى الأسمر بشعره الأشعث من بين الصخور: «بسم الله الرحمن الرحيم»، هتف أحد الإخوة حين رآه وقد حسبه نفراً من الجنّ: كان يقفز فوق الصخور كغزالة، يعرف شعاب الأرض وأشجارها ويتنقل بينها مثل الطائر الصغير المسمّى بالفرنينة. قال بلكنة جنوبية صافية إنّ اسمه «بلال عدشيت». سألناه عن النقطة اللوجستية، فأجابنا ممازحاً أننا ما زلنا في أول الطريق وعلينا أن نمشي أربعة أضعاف ما مشيناه حتى الآن فتأفّفنا وحوقلنا، ثم أردف: «تعبتوا يا ختايرة؟». حمَل عتادنا كله، أوصلنا إلى خيمتنا المموّهة التي تبعد أمتاراً قليلة وانصرَف، لنعرف من بعدها أنه الآن في مشواره الرابع بين قمة الجبل وسفحه يحمل المعلّبات، وقناني الغاز، والجُعب الثقيلة عن إخوانه المسنّين، ويعين «البيارتة» الذين لم يشتد عودهم بعد على تسلّق تلك الجبال التي لا تشي أسماؤها الرقيقة (صافي، الرفيع، علي الطاهر) بتضاريسها الخشنة. لم أرَه من بعدها إلّا في دورة الهندسة. سرت همهمات كثيرة حول ما يفعله هذا الفتى الأسمر بتعليمه البسيط بين المهندسين. ساعات قليلة وبدأ بلال يدهشنا في الدروس: بدأ يذكر كل التفاصيل التقنية بما يخصّ «مثلث الصلاحية» في دبابة الميركافا، أي الحركية، والقدرة النارية والحماية، وتحليل العلاقة بين كل عنصر من هذه العناصر، ناهيك بتحليل نقاط الضعف والقوة في بدن المركبة. كان بلال يصف النسخة الجديدة الثالثة من الدبابة الإسرائيلية التي سمّاها مخترعها يسرائيل تال بـ«مركبة الرب» بالسهولة ذاتها التي يصف بها الورود على جانبَي حقل تبغ أبيه. وحين نطلب منه أن يعيد الوصف لندوّنه على دفاترنا، يأخذ نفساً عميقاً ويقول: «لبَن الطير الجبلي: نبات معمّر ذو بصلة بيضية من 2 إلى 3 سم، الأوراق 4-7، مبسوطة على الأرض رمحية. الساق قصيرة جداً. القنابات شبه شفافة وجافة، حادة الرأس، ذات عروق نافرة لا تحتوي على شريط أبيض ظاهر، أقصر من العنيقات التي يزيد طولها عن ضعفي أو ثلاثة أضعاف طول الزهرة. الكمّ 15-20 سم، ذو بتلات متباعدة كأصابع قدم عصفور أبي الحنّ يبدو على ظهرها شريط أخضر يصل حتى رأسها». نضحك جميعاً ليكمل وصف الدبابة كأنّها ماثلة أمام عينيه ويفاجئ الجميع بسرعة بديهته وذكائه الثاقب وتفوّقه في نهاية الدورة بتقديمه مشروع التخرّج الذي يقضي بنشر أسلحة ضد الدروع بطريقة فعّالة أو رؤيته لتطوير قوة هذا السلاح في المقاومة، بشقيه المباشر عديم الارتداد والموجّه، ليحصل من بعدها «بلال عدشيت» على استثناء للتخصّص في السلاح الموجّه وبخاصة صاروخ التاو. كان بلال يصف ممازحاً جرافات العدو وجبّالاته التي تدعّم نقاطه بمدينة الملاهي. وحين صار بعمر العشرين ملكَ «التاو» بلا منازع، عرفنا جميعاً في سلاح الدروع أنه سيلهو بالعدو وآلياته، وستكون الميركافا لعبته المفضّلة.

◄ أعرفهم ويعرفونني
(بلال يروي)

كنا نسمعهم على أجهزة اللاسلكي قبل التحرير بلغتهم المثقلة بحرف الخاء حين نثخنهم بصواريخنا، فأطلب من رفيقي الذي يجيد العبرية أن يترجم لي جمَلهم الغاضبة والمستغيثة: باتوا يقولون إنّ رامياً ماهراً واحداً يطاردهم، من دبابة سجد التي أصيبت بعد ثوانٍ قليلة من ظهورها من الساتر الترابي حين ساعدتنا تلك القرية المعلّقة بالغيم فأزاحت ضبابها قليلاً، ويوم راقصنا الدبابة في موقع الدبشة: اكتُشف أمر مجموعتنا الصغيرة وسقط لنا شهيدان فوق التلة المطلّة على النبطية. كانوا يطلقون النار على «علاء البوسنة» يومها الذي استمر في الزحف نحوهم غير آبه بأزيز الرصاص لنسمع صرخاتهم على أجهزة اللاسلكي: «في واحد مجنون عم نقوس عليه وما عم يزيح». رأينا الدبابة تخرج من الساتر، فاستظلّ علاء من رامي الدشمة بالدبابة وصار يتحرك معها كراقص التانغو، بينما تمترستُ أنا في خندق قريب وقد أُصبت في يدي. أحسست بانخفاض حاد في ضغط الدم، فنمت على بطني وجهّزت رمانة يدوية تحت حزامي لتنفجر بهم لو قلبوني ليأسروا جثتي: رأيت قائد الدبابة بأمّ العين يغيّر «شرشور الرصاص» كي يحصدنا من فوق البرج، لتنزل المعجزة من السماء: كنت قد تركت قبضة «فاغوت» مع أحد الأخوة المبتدئين بالعمل المقاوم ممن درّبتهم على السلاح المضاد للدروع وأوصيته بالثبات في نقطة التأمين. عالج الأخ الدبابة بالقذيفة التي تناثر دخانها، فأعمت أبصار الجنود الصهاينة ثم انسحبت بسلام مع علاء. ضحك هذا الأخير كثيراً حين صرنا في النقطة الآمنة وأخبرني أنها ليست المرة الأولى التي يرقص فيها رقصة الموت مع الدبابة: في إحدى العمليات في قلب الشريط المحتل، كان الشهيدان صلاح غندور (ملاك) وعلي طعمة (سراج) قد رميا قذيفة مضادة للدروع باتجاه الدبابة التي لم تصب بأذى، فجرّبت أن أتصدّى لها ببندقية الـ«m16»، لأرى الدبابة هاجمة عليّ كتنّين غاضب، فانبطحت على الأرض، وبقيت على هذه الحال ربع ساعة، الى أن اختفت الدبابة من أمام ناظريّ. ناديت زميلي «بلعتها الأرض للدبابة». قابل زميلي العبارة بابتسامة ثم ربّت على كتفي ناصحاً إيّاي بأخذ قسط من النوم (لم أكن قد خلدت إلى النوم لثلاثة أيام سبقت الكمين)، ليتبين لاحقاً أن الدبابة وأثناء تراجعها إلى الخلف لم «تبلعها الأرض» إنما وقعت في بركة بيت ياحون وغرقت فيها لتشمت بها الضفادع ويعاسيب الماء. الدقة في التعامل مع ميبر الدخان، أو سيخ الحديد المثقوب من الجهة الخلفية الذي يدخل فيه الخيط لتفريغ «مشط الأوراق» عند امتلائه وكذلك معرفة المقاسات عند «تصفيط» التبغ بشكل مخروطي و«تضنيكه» داخل الصندوق قبل تسليمه للريجي... كلها مهارات استفدت منها أثناء التعامل مع السلاح: في إحدى العمليات على موقع سجد، اكتشفت أنّ «الناقر مش عم يُصْلي» في مدفع الـ106، وبالتالي صار مستحيلاً رمي الدبابة التي بات خروجها قريباً من الدشمة: كان أحد الإخوان قد نسي تركيب «المحدلة» الحديدية الصغيرة التي تسمح بضغط الناقر إلى الخلف وتجهيزه لضرب كبسولة القذيفة. أمرت أحد المتدربين المرافقين بالنزول إلى النقطة اللوجستية عند «نبع الطاسة» وأن يحضر لي منشاراً حديدياً. فككتُ رشاش الكلاشينكوف وسحبت «سيخ التنظيف»، ثم فصّلت من سيخ الرشاش قطعة أسطوانية ساويت أبعادها الهندسية ومقاساتها اعتماداً على النظر والسليقة مع القطعة الناقصة.
تبين لاحقاً أنّه أثناء تراجع الدبابة إلى الخلف، لم «تبلعها الأرض» بل وقعت في بركة بيت ياحون

ركّبتها في المدفع وأطلّت الدبابة، فعاجلتها بالقذيفة التي أعطبتها فوراً. سمّى الجيش الإسرائيلي تلك المدة التي كنا نلهو بها بدباباته مرحلة «عيون السمك»: كان يكفي أن تحرّك نسمة من هواء الشوادر التي يموهون بها دباباتهم أو يجفل عصفور فوق تحصيناتهم لأرميهم على الفور، إذ شعر العدو بوجود رامٍ ماهر متمكّن لا يغمض له جفن كتلك السمكة الذكية التي كانت ترصد أيدينا وأدواتنا البدائية حين نهمّ باصطيادها في سواقي الأنهار. وصفتهم صحافة بلادهم بـ «الإوزّ في مرمى الصياد» حين أدخلت الصاروخ في كوّة دشمة «العزية»، فجنّ جنون العدو لمقتل ثلاثة من جنوده وارتفعت في الكيان صرخات حركة «الأمهات الأربع» التي تزامنت مع الضغط الكبير والخسائر التي كنا نكبّده إياها في الميدان. يوم العملية الشهيرة على موقع الطهرة، كنت أرمي تلك التلة من جبل السويداء المشرف على كفرمان، لتبدأ المواقع الإسرائيلية واللحدية بفتح نوافذ الدشم والتمشيط: لم يكن أمامي ما يكفي من الوقت لفكّ القطع الخمسة لصاروخ التاو: فككت صندوق التحكم (mgs) فقط، ثم حملت القائمة الثلاثية للصاروخ والمنظار والسبطانة وجهاز الانتقال بما يساوي 75 كيلوغراماً على ظهري وتجاوزت منطقة الخطر بين زخات الرصاص: صارت هذه الطريقة في الفكّ والإخلاء ماركةً مسجّلة في التدريب تسمى «طريقة بلال عدشيت». لم تتأخر بعدها البشارة لتطلّ: كانت شتلة التبغ أبهى في الحقل في ذلك اليوم من أيار، وحملت نسوة الجنوب أباريق الماء فوق رؤوسهن يدبكن ويبتهجن بالنصر المؤزّر. كان ثمة صوت من ناحية الحجير يناديني ويضرب لي موعداً بعد سنوات ست. هو صوت ذلك الراعي ذاته حين وصف الوردة الجميلة الهشّة بروحها المعلّقة بالصخور.

◄ فتح عتمة خيالو وفات
(الحاج حسام يروي)

كان الاتصال ينقطع مع بلال في تلك المعركة التي عرفت في ما بعد بـ «مقبرة الدبابات في وادي الحجير» في حرب تموز 2006. كل مرة نسترجع الاتصال، يجيبنا بلكنته الجنوبية: «رميت دبابة عند هذه النقطة، ودبابة ثانية عند تلك التلة، وثالثة عند المنحدر، ورابعة في الليل عند ذلك الكوع القاسي»، ليصرخ به أكثر من واحد من الأخوان: «روق شوي يا بلال مش ناوي تخليلنا شي؟». كان ذلك الفتى الأسمر يوزّع «قبضات» الكورنيت في أماكن شتى، وبقدرته على معرفة الأرض كما يعرف خطوط قبضة يده، ينصبّ الكمائن للدبابات في ما عرف بـ«نافذة القتل الضيقة» أو «كوريدور النار»، أي الرمي من نقطة ضيقة جداً كاشفة للهدف ومخفية عن أعين العدو. كان الجيش الإسرائيلي يطمح إلى أن يبلّل أحذية جنوده بمياه الليطاني: غيّر بلال مكان تموضعه الأول حين أحسّ بالفطرة بأنّ الدبابات ستتخذ مساراً آخر أثناء انحدارها نحو النهر. وبتغييره لمراكز الرمي، ظنّت القوات الغازية أنّها تواجه كتيبة من الرماة. كانت الصواريخ تحصد الدبابات في الليل والنهار، ومن مسافات قريبة وبعيدة وبقدرة عالية على الإصابة، ومساحة شاسعة ينتقل بها الرامي من مشروع الطيبة حتى أطراف يحمر مروراً بوادي الحجير كله. أصيب العدو بالجنون في «وادي براك» وهي مسافة مكشوفة منحدرة في وادي الحجير تتوسطها غابتان كثيفتان، إذ عادة ما يتجنّب الرماة إهدار صواريخهم في تلك البقعة لعدم معرفتهم بالسرعة التي ستنتقل بها الآلية ضمن هذه المساحة الصغيرة المكشوفة من مئتي متر لا أكثر، ونظراً إلى الاختفاء السريع للهدف الأشبه بطيور الحجل الذي يمرّ كطيف عابر فوق الحجير. كان بلال يعرف جيداً وزن تلك الدبابات بكامل حمولتها وعتادها وسرعتها، وهي تخرج من الأجمة الكثيفة، ويعرف نقاط الضعف في تدريعها، والفتى الذي لم يدخل صفوف الفيزياء يوماً كان يحسب فوق التراب الجنوبي الوقتَ اللازم للدبابة لتصل إلى حيث يشير الصليب على منظار الرمي: أعطب بلال دباباتهم في ذلك النهار القاسي. وحين حاول الطيران معالجة صواريخه بالسلاح الحراري، أخرج الفتى الجنوبي ثانيةً معجزاته: كان بلال قد أحضر معه مجموعة من «الفرش والتراريح» ووزعها على أماكن قريبة من مرابض الرمي، ثم صار يحرقها لتغطي بصمتها الحرارية على بصمة الصاروخ الذي ينطلق ويسرح ويمرح بين الدبابات.

صارت هذه الطريقة في الفكّ والإخلاء ماركةً مسجّلة في التدريب تسمى «طريقة بلال عدشيت»

كان ذلك اليوم من أصعب أيام الحرب على الجيش الغازي الذي صار هاجسه الوحيد هو القضاء على ذلك الرامي نفسه الذي كان يقض مضاجع جنوده قبل التحرير ويصطاد الآن ما يقارب عشريناً من دباباته في ذلك اليوم الساخن من تموز. غطى الجيش الإسرائيلي بالنار كل النقاط التي يمكن أن تنطلق منها الصواريخ ليشكّ الرصد الحراري التابع للعدو ببيوت قليلة عند قرية على أطراف الليطاني يمكن أن تصلح أسطحها وشرفاتها كمرابض لإطلاق صواريخ الكورنيت. عرف قائد القوة المعادية أنه بات قريباً جداً من الرجُل الذي دوّخهم بمتفجراته في عملية الأسر الأولى عام 2000، وكانت نظرات المقاومين وأنفاسهم من الحاج رضوان والحاج قاسم (خالد بزي) متعلّقة بصاروخه الذي أعطب عربة «الهامر» المصفّحة التي سُحب منها الجنديان عام 2006 في خلّة وردة. أمر القائد وحدته أن تمطر بالصواريخ الموجّهة، ذلك البيت المطلّ على النهر وتدمّره بالكامل بعدما تقاطعت الإحداثيات من الجو والبر على أنّ «حركة ما» تدبّ فيه. استظل بلال قليلاً من حرّ ذلك النهار في غرفة البيت المفضية إلى شرفة خلفية يُنشر عليها التبغ، وبان الحقل القريب بشتوله «المعكعكة». تذكّر بلال يوم زاره ذلك الأخ البيروتي في عدشيت وسأله عن اسم شتلة التبغ التي لم يرها من قبل، فأجابه بأنها «خسّة إفرنجية طعمها مرّ بتنحط بصحن السَلطة»، لترمقه أمه بنظرها لئلا يتمادى بتلك المزحة. كان وجه الأم آخر ما أبصره بلال في اللحظة التي أصابه فيها الصاروخ، ورأسها ملفّع بكوفية مبلّلة بالدم والعرق تركها أدهم خنجر عند الخردلي حين ساقوه إلى حتفه، وبين شفتيها وردة بنفسجية تنشدّ بخيطها الرقيق إلى الصخور حين تذبل أوراقها. سقطت بتلاتها على الوجه الأسمر، كان ثمة صوت في جبل عامل كله، من بحر الناقورة حتى سهل الخيام، ومن جبل الريحان حتى شقيف أرنون وروابي الحجير، يردّد مع الطيور والأشجار والهواء وخرير المياه في السواقي الصغيرة: «ناس قالوا قِتل/ ناس قالوا مات/ ناس قالوا: فتح عتمة خيالو وفات».