آمنة القرى*عزيزي الأخ المناضل السيد هاني فحص، سوف نفتقدك كثيراً ونشتاق لجلساتك الغنية بالأدب والفكر والشعر وذكريات الأيام الصعبة الزاخرة بحلوها ومرها في بيروت والجنوب وبوصلتنا التي لا تحيد عن فلسطين، وقبل هذه أو تلك وبعدها لصخب الحوارات السياسية على افتراقنا الودي في أكثر من موقف ورأي، فكأن فلسطين تشرع لنا وجهها لتعيدنا إلى بيت الطاعة حيث هي ملكة على قلوبنا وعقولنا بلا منازع.

قبل يومين، تمنيت في المستشفى أمام ريا إبنتك وشبيهتك شكلاً ومضموناً، على اختلاف آرائكما أيضاً، تمنيت لو تفيق من الغيبوبة، وتقرأ ما كتبه أحبابك ومعارفك في "السفير" برجاء وأمل شديدين بأن تضحك من أعماقك على هذا الهلع الذي أصاب الجميع، وتقول لهم ها أنا لكم بالمرصاد وأنت غائب عن هذه الدنيا التي ما كانت يوما محط اهتمامك الا من باب الاهتمام بمصالح الناس واحتياجات العباد والأوطان.
أتذكر في هذه اللحظات الأليمة كيف "زعلت" مني في آخر زيارة في بيت البسطا حيث تحاورنا إلى حدود الافتراق. وكانت المفاجأة في اليوم التالي أن كتبت مقالة عن أم أحمد أطال الله بعمرها وأم جريس رحمها الله (أمهات الشهداء على طريق فلسطين) ونشرت "زعلك" في طي المقالة. بالتأكيد كنت تريد الكتابة عن السيدتين الرائعتين لأنك تحب لبنان على مثالهما بل تحب أن تكون الأمة بأسرها صورة عنهما. ضحكت يومها واتصلت بك لأقول "اليوم أنا زعلانة" هل تنشر غسيلنا على صفحات الجرايد أيها السيد الطيب، إذ طيبت خاطري بأن "الزعل على قدر المحبة".
بالتأكيد لم يكن آخر لقاء بيننا بل كانت لنا لقاءات عديدة بعضها وللأسف كان في مناسبات حزينة. ودّعنا أم جريس في دير ميماس حيث ألقيت كلمة في مذبح الكنيسة، في مشهد رائع لسيد معمم وإمام وقور فبكيتَ وأبكيتنا وسحرت الحضور بحضورك. ومن ثم في مأتم المناضل المصري الفلسطيني الهوى القائد الطبيب عمر محجوب في القاهرة وبعد ذلك في بيروت في مسرح شمس للإحتفاء بذكراه، وبعده في بيروت أيضاً في تشييع رفيقة النضال أم زياد، الدكتورة ماري فرانس نوفل ومن ثم الموظف الدولي المناضل جورج قصيفي في قاعة الأنطوش في كنيسة مار يوحنا في جبيل.
أيها السيد العزيز من جمعتهم فلسطين لا تفرقهم رياح السياسة أو حتى عواصف الأمة. لقد جمعتنا فلسطين جميعاً ولن يفرقنا حتى الموت... مرت علينا نوائب كثيرة وكبيرة وبقينا في لبنان وفي العالم العربي وحتى من تغربوا في أربع أصقاع الأرض مجموعة متصلة متواصلة كل يجهد ويجاهد على طريقته وفي آخر النفق ضوء فلسطين نستشعره فنلتقي لنتكاتف ونتصالح من أجل عينيها الموجعتين في غزة وفي الضفة وفي القدس وفي كل مدن وحواري فلسطين العتيقة التي علمتنا كيف نختلف ونتفق ونبقى على عهد الحب والوفاء لها... منذ زيارتك مع الغائب الكبير السيد موسى الصدر الى كفر شوبا حتى رعايتك الأبوية للكتيبة الطلابية التي أصبحت كتيبة الجرمق وعمود الصمود والقتال ضد العدو من بنت جبيل ومارون الراس وقلعة الشقيف يوم كنا نقاتل العدو دون أن نعرف من منا المسلم والمسيحي ومن منا السني والشيعي... عرفتنا إلى الاسلام الذي يعطي الأولوية للجواهر والمعاني العميقة والمقاصد ويترك القشور للأيام تصلحه على طريقتها عرفتنا إلى الاسلام الذي يوحد ولا يفرق ينظر الى المستقبل المشرق للأمة بكل مكوّناتها وتفاصيلها دون إقصاء أو تكفير وصلت بين قلوبنا والثورة الاسلامية في إيران وعرفتنا الى فكر الإمام الخميني الثوري والنهضوي والوحدوي فشعرنا بانكسار الحصار عن الثورة الفلسطينية...
أيها السيد الطيب عشت مناضلاً فذاً وصاحب قضية، الفقير حقاً للجاه والمال، الغني بعلمك وفكرك وأدبك وشعرك وبأصحابك الذين سوف يفتقدونك كثيراً ولسوف يستذكرونك عند كل خطوة نخطوها نحو فلسطين.. غنياً بحبك للناس وقربك منهم وخاصة بسطائهم.
رحمك الله وأسكنك فسيح جنانه وألهم أهلك ورفيقة دربك أم حسن أبناءك وبناتك ونحن أخوانك وأخواتك وأصدقائك في أنحاء العالم ومن كل دين وملة ولون الصبر والسلوان... يا من لم تغرف من الدنيا سوى المعارف... سلام لك حيث لا يضيع أجر ولا يبخس حق عند رب كريم.
* صحافية لبنانية