لا مأوى للرجل هذا. لم يُفرقع الرجل المعمم الأمر بين الأهل والأصدقاء. لأنه لم يجد بصدوره المحير أمراً، يستحق البلبلة. لعل تجربته العراقية علمته أنّ العمليات الافتراضية لا تفيد السائل ولا المسؤول. هناك في النجف، وجد، حيث وجد الكثير من الكثير من رجال السياسة اللاأغنياء. رفض العروض السخية، وتحمّل كلف العمليات. لا من الجيب ولا الغيب، من اللحم الحي، من الروح. هناك درج رجل الدين، المتحضر، على المساعدة في إطاحة نظام الرئيس العراقي القتيل صدام حسين.
وجد رجال النظام في ظهره على الدوام في المطارات العراقية. أكدت النجف، الدينية، أن لا علاقة أكيدة لها، بتخريج رجال الدين، على بطون رغبة الأهالي، المسيسرين أولادهم، إلى مدن اللهب. لا دخل ولا أصوات، إلا تلك المخنوقة، بحكايات قمع البعث العراقي للأصوات.
شتى الطرق والوسائل لمساعدة العراقيين على العراقيين. لأن العراقيين، عراقان. عراق البعث، وعراق المعارضات. خضعت الأخيرة لعمليات استئصال جراحية، محتها عن خرائط البلاد، الطائرة في الأساطير، الطائرة بين الأساطير. نال الرجل المعمم نصيبه، من جلسات الاستجواب والتهديد، بدل أقساط التعلم. دفعته بيئة القمع إلى الشغل على الرغبة لا على النصيحة.
رجل ضد النصيحة، هاني فحص، لأنه سيد من أسياد إسداء النصائح، بلا ماء النصائح. بأوتاره. يشد النصيحة، المشغولة، بالنظرات المزغولة بالبحث عن الدنيا في الدين والدين في الدنيا، يشد النصيحة ويتركها مرمية على أقدام طالبها، بعكس رغبة المنتظر. نصيحة زواج أو طلاق أو مساعدة على عبور قناة في حياة بلا قنوات. ذلك أن من قصده، إنما قصده، بعدما عيل صبره وهو يطرق الأبواب بلا جواب، إلا جواب الإحالة. عند السيد، مطفئ نار الانتظارات الكبرى والصغرى، تقنية وأخرى. تقنية صيد العصافير بالدبق، بقضبان الدبق. وتقنية لقاء الأهل بالأهل. العدة، عدد. نصب قضبان الدبق والصبر والتخاطب بلا فصاحة، ما دامت لهجة صاحب النظارتين السميكتين بالرحابة، تكتنز الفصاحة، دون خجل كبير منها. لا شيء يردعه، عن الإفتاء أمام مرابع الصعوبة أو الاستحالة. كل ما بين يديه من أيام صعوبة راهنة، للأيام المقبلة الميسرة. إنما بعد العسر يسر. أفادته العملية هذه كثيراً، دون إفادات محلفين أو أطباء. لأنه العملي المبكر على العملانية. هكذا وجدته دوماً.
لست من زبائن صالونه، غير أنني قصدت منزله الفقير في واحدة من مناطق الضاحية الجنوبية في بيروت، لأمر مستحق. إذ رغب صديقان من طائفتين مختلفتين بالزواج «على سنة الله ورسوله». حتى لا يعتبر زواج الفتاة جريمة مزدوجة. لا شيء إلا الخوف والقلق في عيني الفتاة المغرمة. وحين سقطت كل الأساليب والآليات في المحاكم الشرعية، احتكما إليّ، أنا الباحث عن الحكمة في كل مجال إلا مجال الحكمة. ذلك أن لا نصيب لي في جهة أو حزب أو منظمة أو مصرف أو هيئة أو عائلة.
كتب الشعر والنثر والخطابة والأدب والسياسة

لم يخطر، عندها، إلا السيد. سيد بلا حسابات، لا شخصية ولا بنكية. هناك بطاقته، المصنعة من لطف قروي حد، محا كل النظم والرقابات الدينية، بجملة مكر واحدة. زوجتكما على سنة الله ورسوله. مكر الجملة على مكر الابتسامة، صنعا عائلة، لم تلبث أن هاجرت إلى آخر بلاد الأرض، هرباً من مكر السياسة والسياسيين اللبنانيين. جاء بثلاثة أكواب شاي. حرك فيها ملاعقها الصغيرة، بلا سكر. شد ورقة من دفتر، طلبه من زوجته، حتى أتى به ولده، حررها من ستفة الأوراق. كتب على مربعاتها، أنه زوّج فلاناً بفلانة. نقلها من خانة الوالدين إلى خانة الزوج، طالباً من الأخير أخذ ورقته إلى المحكمة الشرعية، حتى تسجل المحكمة ما فيها على دفاترها.
العمامة سوداء. السيد إذاً، من أهل البيت. بيت رسول الله. قدرته على المماحكة، غيَّرت لون العمامة، على قواطع التاريخ. هي خضراء، أضحت كذا، ثم أصبحت سوداء. ألعابه لا تنتهي. هذا أحد الحواة الطيبين. حاوٍ بكتابة الشعر والنثر والخطابة والأدب والسياسة. لأن ما مارسه في السياسة، ليس سياسته. ما مارسه، سياسة إدراج السياسة في برمجيات التوازن لا الحوار. لأن حواراته، فقهية، ولو أدعَّى غير ذلك. صندوق بريد الناس، يقرض الجماعات ما تحتاجه. ينقص رجل دين شيعي، على ضفة خالية من رجال الدين الشيعة، على هذه الحاجة يدور السيد حضوره. السيد ربَّها في المجال هذا. السيد قرِّيض مواقف، يقرِض الموقف كي لا تكبر الجريمة. جريمة الدور الخالي من الآخرين. لم يطمح أكثر من أن يمسي إمام جامع جبيل. وحين لم يمتلك ورقة ضمانه هذه، ترك حسابه المدرج على كل البطاقات إلا البطاقة المصرفية، بصالح الإغراءات الأخرى. القرض والنثر والنظم والبحث والتحليل ومعاضدة الناس على الحكومات. هذا رجل كالمعبر. معبر الآخرين. لم يغسل موقفاً وهو يوازن حضوره على كفتي ميزان البلاد المجروحة بالتعصب، والمقتولة باستخداماته الرهيبة. كريم، بألعاب الحياة. ساخر لا يحذر سخريته. استخدم كل الأشياء، من دون أن يصل إلى شيء. مخترق المجالات، بلا ترددات الاختراق. له في كل عصا وادٍ، لا في كل وادٍ عصا. نظراته عدسات مكبرة. شايه خمر نفسه. قلمه منارة بحر مضبوب في الكتابة الموشومة بالاختراقات. جسده حساب بلا أرقام تشفير. «هكر» الدخول إلى الحسابات الإنسانية، قبل أن يدرج الهكر على الوسائط الرقمية. منفتح، يقال لأنّ رجل الدين في لبنان مقتله الانغلاق، في حين أن الدين رحمة. الانفتاح من مفاهيم الرحمة الأولى. منفتح بالضرورة، وإلا بقي السيد صنو نفسه لا صنو الآخرين الباحثين عن الذات في الآخر وعن الآخر في الذات. ذات يوم، اجتمعنا على هواء واحدة من القنوات التلفزيونية المحلية. هناك أسبغت عليه صفة السيد الأحمر كي أصفه إلى جانب غريغوار حداد والمطران خضر. هم الغمزة، غير أنه لم يستمرئها، لأن لا نتيجة ترجى منها، سوى زيادة الريح بيديه، بقوة الريح وعزيمتها. بنخوته الساخرة، قال: "انت الشيوعي". وإذ وصف رجل الدين الشيوعي بالشيوعي، حوّٓل الشيوعي إلى عارض أزياء في ديفيليه قديم، مقبلاً على شيوعيته المخبوءة بشباب راوح بين الماركسية والشيوعية. ساخر دائماً. سخر من الكل حين مات، لأنه لم يدعُ أحداً إلى انتظار موته السريع.