أنا غزة يا أبي. رأيت في ما يرى المتيقّظ لا النائم، أنّ اثنين وعشرين نجماً تلمع بسوادها الحالك بأكثر من ظُلمة النفوس الحاقدة متجلّببون بالجهل واللهب، وكانوا يتهامسون، وفي عيونهم تجُوب شذرات حادّة يكْمُن الغيظ في حدقاتها، وفي لهاث شهيقهم والزفير موجات من ذبذبات متوترة .. خلّتُ في نفسي أن هَمْسَهُم جليلُ الشأن لأنه قد يتعلق بشأني. فلملمت متاعبي، وبدأت أرقب، وأراقب وأنتظر، وأعْليّت صوتي استنجدهم الرأفة سعياً للبحث بأوضاعي، فالضيق يا أبي يشتد، ومنافذ الضوء تخفُت تدريجاً، وطوق الاحتلال يتطاول ويتأجرم. لكنهم يا أبي لم يأبهوا، فما بادروا، ولم يوضحوا ما هم سيفعلون، لكنهم وضعوا خططهم، وكانت في سعيهم لإلقائي في جب الحصار، وتركي في بئر الفرجة. قاموا بالمهمة، بعدما وعدوني بشتى الوعود، تضاحكوا سرّاً، ومدّوا إليّ حبال من مسد، ولم تكن للإنقاذ. تركوني في صحراء التيه فلم أسمع سوى عواء الذئاب من حولي.. لكنني يا أبي لم أفقد الأمل، وبنيت على شهامة ذوي القربى، وثواب احترامها إن احترموها، ومساوئ التغافل عنها إن قصّروا بالقيام بها، فعدت واستنجدتهم إنارة مصيري فما فعلوا، ونسيت أنهم نجوم سوداء مطفأة لا تنير ولا تعكس الإنارة.. في مكوثي في بئر الحصار، كنت أتأمّل تلك الليالي من أعمار هذي النجوم المنطفأة بسوادها، وكيف كانت تتبدل مواقعها دونما تغيير. كانت تلك النجوم المتشكلة تحت راية جامعة تراقبني، وترمقني، ولا تتقدّم لفك حصاري. وفي جب الحصار يا أبي غمرني العطش بكليّتي، ومستّني قشعريرة الخوف، واستذكرت أخوتي وأهلي فغمرني الحنين والشوق. وفي غمرة الحزن الذي استوطن كياني، وصلتني إشارات أصعدتني من قاعي البئري. بأظافري أخذت أحفر بالتراب، واكتشفت فتحات تؤدي إلى نفق، ثم انفاق من شبكات تأوي أعزاء، فقلت أنني في أهلي، فارتوى عطشي بماء الكرامة. في غزة يا ابي نعيش على الكفاف حفظاً للذات، وتعيش تلك النجوم المنطفأة بذاتها على التقاط الفتات حفظاً لنصيبها من القحاف. فامتلأت نفسي مِنعةً، وفَرُغَت نفوسهم منها.
أنا غزة يا ابي، ما زلت أنتظرهم أن يضيئوا حالهم أولاً كي تنعكس أنوارهم فتنير دروبي. وما زلت أرمّم ذاتي بذاتي، بقواي المحدودة، القابضة على جمر العزة.. أيامي عسيرة، لكنها غير مكسورة. تضيّق الخناق حولي، ففاض طوفاني، وما أزال أصارع قطعان الذئاب والصهاينة وداعميهم، وأتطلع إلى تلك النجمات السوداء تدلني إلى مزود المولود. لكن حلكة السواد فيها جعلها تُمْعِن بسوادها، وعتمتها واكتظاظ رفضها المساعدة.
أنا غزة يا أبي أعاني تحت وابل قصف طائرات الموت الصهيوينة، وأبنائي يدفعون بدمائهم هجمات الذئاب، وقطعان الصهاينة وداعميهم، والساكتين عن جرائمهم.
أبنائي يحمون الثغور،ويجيدون الصبر ويتألقون بالمواجهة، وسئموا انتظار العاجزين. أبنائي يقيمون في دمهم، ويحفظون إرثهم، ومقاومتهم، وشرفاء البشرية من الذين يسيرون على طريق القدس ويقدمون الشهداء يومياً.
أنا غزة يا أبي ولن أترك غزة.