في كتابه الجديد «البحث عن زيوسودرا ـــــ عن مشروع أنطون سعاده ومصير سورية»، يستلهم نزار سلوم الأسطورة السومريّة السابقة لأسطورة طوفان نوح التوراتية في قراءته المميزة لمشروع أنطون سعاده ومصير سورية. في الأسطورة السومريّة التي تروي غضب الآلهة على البشر بسبب فسادهم فتقرر إبادتهم بواسطة طوفان ينهي الجنس البشري، ينبري أحد الآلهة مخالفاً قرار مجلس الآلهة ويوعز للملك السومري الصالح زيوسودرا بتجهيز سفينة يحمل فيها الزمرة الصالحة من البشر مع بعض الحيوانات لإنقاذهم وإيصالهم إلى بر الأمان. أين يلتقي مشروع انطون سعاده ومعه مصير سورية بهذه الأسطورة وأين يفترق عنها؟


عندما أسّس سعاده حزبه في عام 1932 بعد محاولات عديدة في المغترب لم يكتب لها النجاح، لم يكن يقصد حينها تأسيس حزب سياسي عادي كباقي الأحزاب الموجودة في لبنان والشام وفي المنطقة عموماً. إذ إنّ مؤسسي الأحزاب التقليدية كان لهم هدف واحد هو الوصول إلى السلطة عن طريق الانتخابات النيابية، وهو شأن الأحزاب السياسية في جميع أنحاء العالم، مع فارقين أساسيين: أولاً، الأحزاب السياسية في بلادنا هي في غالبيتها الساحقة أحزاب/ طوائف أو مذاهب، أو «حزبيات دينية» كما أسماها سعاده نفسه. ثانياً، الدول التي تشهد وجود أحزاب سياسية تقليدية هي دول وطنية تحكمها أنظمة ديموقراطية، بينما لم تصل دولنا إلى سوية الدول الوطنية لأن الهوية ما زالت مغيبة أو مبلبلة لديها، وضائعة بين هويات طائفية مذهبية عرقية مختلفة.
إذن، ما كان قصد انطون سعاده من تأسيس حزب في بدايات الثلاثينيات من القرن الماضي؟ لنسمع ما يقوله سعاده في رسالته إلى المحامي حميد فرنجية الذي كان أحد المحامين الذين تقدموا للدفاع عنه. الرسالة حملت عنوان «ما الذي دفعني إلى إنشاء الحزب السوري القومي الاجتماعي؟»: «كنت حدثاً عندما نشبت الحرب الكبرى عام 1914 ولكني كنت قد بدأت أشعر وأدرك. وكان أوّل ما تبادر إلى ذهني، وقد شاهدت ما شاهدت وشعرت بما شعرت وذقت ما ذقت مما مني به شعبي، هذا السؤال: ما الذي جلب على شعبي هذا الويل؟».
إذن، بدأ سعاده من سؤال وجودي كبير هو تحديد أسباب الويل الذي حلّ بالشعب، ليصل بعدها إلى قناعة بأنّ فقدان السيادة القومية هو السبب الرئيسي وراء ما حدث ويحدث من ويل. وفقدان السيادة القومية ينطلق من الضياع والبلبلة اللذين يحيطان بالهوية. فنحن ضائعون بين هويات دينية وإثنية وعشائرية مختلفة من شأنها تفتيت وتقسيم المجتمع الواحد والأمة الواحدة، فوجد إذ ذاك ضالته في إنشاء حركة تكون غايتها الأولى بعث نهضة قومية. فكيف لحركة مماثلة غايتها أن تكون حركة تقليدية عادية أقصى طموحها الوصول إلى السلطة؟ هنا حدث الافتراق بين سعاده وباقي الذين اشتغلوا في السياسة قبله. يقول سعاده: «وفي هذه المسألة، ابتدأ انفرادي عن كل الذين اشتغلوا في سياسة بلادي ومشكلاتها القومية. هم اشتغلوا للحرية والاستقلال مطلقين، فخرج هذا الاشتغال عن العمل القومي الصحيح. أما أنا فأردت حرية أمتي واستقلال شعبي في بلادي». في خلاصة أولى، نحن أمام حزب غير تقليدي غايته غير تقليدية ومشروعه غير تقليدي. بالأحرى، هو حزب استثنائي لأنّ مشروعه استثنائي. وهذا المشروع واضح ومشروح في عقيدته وفي مبادئه وفي دستوره الذي ينصّ في مادته الأولى على أنّ غاية الحزب «بعث نهضة سورية قومية اجتماعية تكفل تحقيق مبادئه وتعيد إلى الأمّة السورية حيويتها وقوتها، وتنظيم حركة تؤدي إلى استقلال الأمة السورية استقلالاً تاماً وتثبيت سيادتها وإقامة نظام جديد يؤمّن مصالحها ويرفع مستوى حياتها، والسعي لإنشاء جبهة عربية». وفي خلاصة ثانية نذهب من أجل معاينتها إلى كتاب نزار سلوم الذي يحدد عام 1932 كسنة التأسيس، كما يحدد 1947 سنة التأسيس الثاني، إذ إنه في هذه السنة التي صادفت تاريخ عودته من اغترابه القسري، تصدى لجماعة «الواقع اللبناني» الذي نشأ أثناء غيابه عام 1944 وأدى إلى الانحراف بالحزب عن خطه الصراعي وأدخله لعبة السياسة اللبنانية التقليدية. وهنا يقول سلوم وهو محق في ذلك أنّ فترة قيادة سعاده المباشرة للحزب، أي بين الـ 32 والـ 38 تاريخ مغادرته الوطن، ثم بعد عودته في الـ47 وحتى استشهاده في الـ 49 هي الفترة التي كان فيها الحزب حزباً غير عادي أو حزباً استثنائياً. المشروع المتمثل في العقيدة هو مشروع استثنائي. القائد استثنائي. الحزب استثنائي. إذاً، هناك مواءمة بين المشروع (العقيدة) كمحمول فكري وبين الحزب (والقائد) كحامل تنظيمي. ماذا حدث للحزب أثناء اغتراب الزعيم القسري ومن ثم في التاسع من تموز 49 أي بُعيد استشهاد القائد الاستثنائي؟
في هذا التاريخ، عاد الحزب ليكون حزباً عادياً تقليدياً، ومع تدرّج المراحل، وصل في محصلته النهائية إلى أن يكون حزباً دون العادي أو دون التقليدي لأنه أصبح كحزب يدعو ويعمل للوحدة القومية، وهنا وجه الغرابة، مقسّماً إلى أربعة تنظيمات كل منها يدّعي أنّه الحزب. وهو لا يعدو في واقعه الأليم من أن يكون ملحقاً وتابعاً لتنظيمات أو أنظمة ربما لا يلتقي مع معظمها، وإذا صدف أن التقى بأحدها، فإنما بجزئية واحدة، مع خلافات لا حصر لها في كل أمر آخر.
هنا أصبحنا أمام مشروع (عقيدة) استثنائي يمثل المحمول الفكري وأمام حامل (تنظيم) عادي أو أقل من عادي. فكيف للتوافق أن يحصل بينهما؟ وإذا لم يحصل التوافق، فمن طبيعة الأشياء أن يكون الحامل أقوى من المحمول لأنه هو الموجود على أرض الواقع، وهو الذي يؤثر على الأعضاء، فيجعلهم أعضاء عاديين (أو اقل من عاديين) في حزب عادي أو اقل من عادي يدّعي حمل مشروع استثنائي. وستتم التضحية بالمشروع عملياً وفي المحصلة النهائية من أجل تنظيم جلّ هدفه أن يكون شريكاً في سلطة هو، في جوهره، نقيضها، أو يكون شريكاً لفصيل قد يلتقي معه بجزئية وحيدة بينما يفترق عنه في كل أمر آخر.
بعد هذا العرض، أين يلتقي مشروع انطون سعاده ومصير سورية مع الأسطورة السومرية؟ أسطورة الطوفان الذي يرمز إلى غضب الآلهة ويتصدى له الملك العادل زيوسودرا بإيعاز من الإله انكي، وأين يفترق عنه؟ يرى نزار سلوم أنّ الإله انكي يحاكي العقيدة القومية، أي المحمول الفكري الذي يحثّ «زيوسودرا» ما، الذي يمثل هذا القائد الصالح الذي يجهز سفينة لإنقاذ بني البشر من غضب الآلهة. و«زيوسودرا» الذي يبحث عنه سلوم ما هو إلا هذا القائد غير العادي الذي يقود الحزب الذي يصبح من خلال قيادته حزباً غير عادي من أجل تحقيق المشروع غير العادي وينقذ سورية من مصير قاتم.
لماذا تحول حزب استثنائي ذو مشروع استثنائي إلى حزب عادي؟


جميل وغريب هذا الربط بين الأسطورة التي خرجت من بلادنا ولها هدف محدد، هو إنقاذ البشرية بعد صدور قرار الآلهة بإفنائها، وبين واقع الأمة السورية المقسمة والمصابة بفقدان الهوية التي جاءت العقيدة القومية الاجتماعية لإخراجها من البلبلة وإنقاذها بالتالي من مصيرها الأسود؟ لكن هل هذا كل شيء ؟ أتكفي العقيدة الصحيحة لتحفيز قيادة صالحة وحكيمة من أجل إعادة الحزب إلى مساره الذي كأنّه في ظل قيادة سعاده؟ ربما لم تكن الأمور بالسهولة التي تبدو لنا للوهلة الأولى، وإذا اكتفينا بالمحاكاة بين الأسطورة والواقع، ربما كانت ثمة عناصر موضوعية وذاتية تكمن في تحوّل الحزب غير العادي حزباً عادياً أو حتى دون العادي. وهنا تبدأ القضية التي يجب أن تشغل بال المفكرين القوميين في هذه المرحلة بالذات. فأبعد من قصة الانشقاقات التي وسمت تاريخ الحزب بعد استشهاد القائد غير العادي، وأبعد من قضايا أخرى ذات صلة تمثل تفاصيل مثل مسألة انبثاق السلطة ومسألة التعديلات الدستورية ومسألة رتبة الأمانة، وسواها من المسائل التي تشكل محاور هامة للبحث، أبعد من ذلك كله... فالمطلوب من العقل الجمعي للحركة القومية الاجتماعية الإجابة على سؤال أساسي وجوهري: لماذا تحول حزب استثنائي ذو مشروع استثنائي إلى حزب عادي أو أقل من عادي؟
هل في الإمكان في ظل الواقع الراهن، أن يستعيد الحزب «استثنائيته» وأن يجد الأستاذ نزار سلوم، ونجد نحن معه، «زيوسودرا» الذي يبحث عنه ونشاركه نحن في هذا البحث؟ وهل بالإمكان أيضاً إنقاذ سورية من مصيرها القاتم، بينما الأوضاع من لبنان إلى الشام إلى العراق والأردن، وخصوصاً في فلسطين التي يقع مناضلوها الأبطال بين مطرقة العدو وسندان السلطة، تسير من سيء إلى أسوأ، هل بالإمكان بعدُ إنقاذها؟
أسئلة بحجم وجود أمّة ومصير شعب. والإجابة عنها ليست ميسورة أو متوافرة أكاديمياً أو بحثياً. فهي في مكان آخر تماماً. فالشعب صاحب المصلحة هو المعني الأول بالإجابة عنها. ونعود مرة أخرى لسعاده، وكما يرى سلوم عن حق، فإنه يجب أن «ينشقّ فرد عن فساد المجموع» ليحقق هذه المصلحة الحيوية للشعب. ونبقى نبحث عن «زيوسودرا»