تتصدّر مؤلفات وأبحاث المؤرّخ حسان حلاق (1946-2023) الذي رحل قبل أيام، رفوف مكتبة «جامعة بيروت العربية»، وهو أحد خرّيجيها في مادة التاريخ (قسم الآداب)، والمتطوع فيها بلا مقابل أثناء تدريسه في الجامعة اللبنانية، والمُحاضر فيها بعد التقاعد من الجامعة اللبنانية. 129 عنواناً تحمل اسم المؤرخ الراحل في رفوف المكتبة، في حين بلغ عدد الرسائل والأطاريح التي أشرف عليها 173 رسالة ما بين ماجستير ودكتوراه في «جامعة بيروت العربية» وحدها، عدا تلك في الجامعة اللبنانية. لكنّ رصيده بين زملائه والطلبة راكم سنوات من سيرة حسنة، عناوينها الصفات النبيلة التي تمتّع بها، والكلام المحمود وبكل الأوصاف التي قيلت عنه، ويتميز بها كإنسان. يقول مؤسس «جمعية الإصلاح للنهوض ببيروت» المؤرخ عبد الرؤوف سنو لنا إنّ حلاق (أحد مؤسسيها أيضاً) «نموذج الخلق الرفيع، والأمانة، والصدق، والضمير، لم يدخل يوماً في زواريب الاستغياب على أحد، بمن فيهم الذين أساؤوا إليه، وكان يحفظ السرّ، ولا يبدي عتباً أو لوماً على مُسيء، وكان يقدّم الخدمات ولو كان متضايقاً من الشخص الذي يطلب منه خدمة. أقول بكل راحة ضمير (هنا غصّ بالكلام ودمعت عيناه) إنّ حسان حلاق من النوع النادر من الناس».
سنو الذي تزامل وحلاق أثناء الدراسة في «جامعة بيروت العربية»، وفي التدريس والتأليف، يبدي غبطة بأن التوجهات الفكرية المتباينة بينه وبين حلاق لم تؤدّ إلى قطيعة، بل على العكس شدّت من أواصر الحوار والاحترام، فـ«أنا علماني، وحلاق عروبي بتوجه إسلامي، بعيد كل البعد عن الطائفية».
تنوّعت اشتغالات حسان حلاق على التاريخ، فبدأ بفترة الحكم العثماني، وكان مدافعاً عنه، رافضاً وصفه بالاحتلال، وكان من أوائل المدافعين عن السلطان عبد الحميد بأنه لم يبع أرضاً في فلسطين للحركة الصهيونية. ومن العثمانية إلى تاريخ لبنان المعاصر، كتب العديد من المؤلفات، ومنها كتابه «دراسات في تاريخ لبنان المعاصر 1913-1943: من جمعية بيروت الإصلاحية إلى الميثاق الوطني اللبناني» (دار النهضة العربية 1985).
129 عنواناً تحمل اسم المؤرّخ الراحل في رفوف المكتبة

هنا، توقف عند ولادة أول جمعية غير طائفية في بيروت، تُدعى «جمعية بيروت الإصلاحية» بداية سنة 1913، وضمّت أعيان الطوائف الإسلامية والمسيحية واليهودية، ووضعت لائحة مطالب إصلاحية رفعتها إلى الدولة العثمانية لإقرارها، مؤكدة فيها على الحكم اللامركزي. لكنّ حلاق يورد في هذا الكتاب «أن سيطرة فرنسا على لبنان ساهمت مجدداً في تقسيم اللبنانيين ما بين مؤيّد للعروبة وللالتحاق بالوحدة السورية، وما بين معارض للحماية الفرنسية»، لافتاً إلى أنّ «تاريخ عام 1919 هو تاريخ مفصلي في القضية اللبنانية حين قرّر المؤتمر السوري عام 1919-1920 إعلان الاستقلال التام للبلاد السورية وإعلان فيصل ملكاً عليها، حتى قررت دول الحلفاء في مؤتمر سان ريمو إعلان انتدابها وتقسيمها للبلاد السورية في ما بينها، وإعلان لبنان الكبير عام 1920». ومن طرائف الممارسة السياسية والمصلحية في لبنان وباتت عُرفاً مارسه الجميع إلى اليوم، يذكر حسان حلاق في الصفحة 154 من الكتاب المذكور «أن الأمر الملاحظ في هذه الفترة حدوث تطور مفاجئ في موقف البطريرك الماروني أنطوان عريضة، الذي بدأ يعارض السياسة الفرنسية بسبب قرار المفوّض السامي الفرنسي دي مارتل الصادر في 30 كانون الثاني (يناير) 1935 والهادف إلى منح شركة فرنسية حق استثمار التبغ اللبناني لمدة خمس وعشرين سنة، بما يتعارض مع المصالح الاقتصادية للبطريركية وللرهبانيات المارونية مالكة الأراضي التبغية في تلك الفترة»، فكان أن أعلن البطريرك عريضة «أنّ لبنان وسوريا لا يستطيعان العيش إلا معاً»، مشيداً بمواقف النواب المسلمين الوطنية لأنهم كانوا على خلاف مع السياسة الفرنسية. من طرائف وطرائق الممارسة السياسية في لبنان، نجدها في سياسة الصهاينة ومثلها في النظام الرسمي العربي منذ نكبة فلسطين إلى اليوم. كتابه «فلسطين في المؤتمرات العربية والدولية – وثائق ومراسلات تُنشر للمرة الأولى» (منشورات روائع مجدلاوي 1998)، يتضمن النصوص غير المنشورة للوثائق والمراسلات المتعلقة بالقضية الفلسطينية 1920-1948، ويحتوي أيضاً على ستة فصول وملاحق وثائقية مصوّرة. وفي هذا الكتاب، يكشف حلاق في «أثر الجهود الدولية والتفكك العربي في قيام الدولة العبرية» أنّ أحد مقترحات الوسيط الدولي ممثل الأمم المتحدة الكونت برنادوت بتاريخ 27 حزيران (يونيو) 1948 «إيجاد دولتين»، وكانت مقترحاته لصالح الصهاينة لكنهم رفضوها. أما العرب، فيكفي الاطّلاع على رسالة استقالة فوزي قاوقجي بعد قرار جامعة الدول العربية بتسريح جيش الإنقاذ عن طريق خفض عدده، وعدم إمداده بالمؤن والسلاح والعتاد، إذ جرت الاستقالة بتاريخ 5 آب (أغسطس) 1948 وقدّمها إلى الأمين العام للجامعة عبد الرحمن عزام، وقال في نص الاستقالة إنّ «تخفيض جيش الإنقاذ إلى النصف يعني بصورة جازمة لا يخالفني فيها أي قائد عسكري، أنني لا أستطيع البقاء والاحتفاظ بالجبهة التي أرابط فيها، ويعني ضرورة الانسحاب إلى مقربة من الحدود اللبنانية، إن لم أقل إلى داخل الحدود اللبنانية، ويعني هذا فقدان الجليل بكامله، أي إعطاء اليهود إمكانات اقتصادية وعسكرية وسياسية واسعة جداً، وتكليف الدول العربية إعانة مئة ألف لاجئ فلسطيني آخر. أما قضية استعادة ما سنفقد من الأراضي بواسطة جيش فلسطيني يُنظر في إنشائه الآن، فهذا أمر خيالي». في الكتاب هذا، تضمّنت الوثائق الخاصة بفلسطين، وثيقة منشورة صفحة 231 رقم 8 وفيها برقية من الطائفة الإسرائيلية في طرابلس الشام إلى مؤتمر السلام في باريس في 26 آذار (مارس) 1920 احتجاجاً على مقررات المؤتمر السوري العام وإعلان فيصل ملكاً على البلاد السورية، مع إشارة حلاق إلى وجود ممثلين عن الطائفة الإسرائيلية يومها في جمعية إصلاح بيروت. وإذ يُعتبر هذا الكتاب من المصادر الرئيسية في الذاكرة الفلسطينية، فإن حلاق تنوّع في مؤلفاته، فحضرت الشعوب الإسلامية، والمدن العربية كملامح حضارية، والعائلات البيروتية في سبعة أجزاء، وشخصيات سياسية، ربما أدى بعضها إلى «زعل» أولياء سير تلك الشخصيات بسبب علمية ودقّة حلاق اللتين تتناقضان مع ثقافة التبجيل والتعمية.

اشتغالاته على تاريخ العاصمة اللبنانية كانت من منطلقات إسلامية مع الحفاظ على عروبتها (الصورة بيروت عام 1870)

اشتغالات حلاق على تاريخ بيروت كانت من منطلقات إسلامية مع الحفاظ على عروبتها. كان مصرّاً على تسميتها بالمحروسة كما القاهرة، مدافعاً عنها ضد التغريب. أما أهمية كتبه عن بيروت، فتكمن في أنّه رجع إلى سجلات المحاكم الشرعية السنية لمقاربة المدينة، وهذا ما جعل قناعته راسخة بعروبة بيروت وإسلاميتها، مع إشارة زملائه إلى أنه عندما كتب عن بيروت، لم يكتب عنها بصفتها إسلامية وإنما كتب عن كل الطوائف فيها، وركّز على التعايش والعلاقات الاجتماعية بين هذه الطوائف وعلى العلاقات التجارية بانفتاحها على بعضها. وكان يرفض المقولة المارونية –يقول سنو ويؤيده- مؤكداً أن الفينيقيين هم من الجزيرة العربية وهم عرب. إحاطة سنو بكتابات حلاق بقوله إنّه «إذا كتب وأخطأ فهو صادق لأنه كتب للناس»، فإنّ رئيس قسم التاريخ في «جامعة بيروت العربية» محمد علي القوزي يقول لنا إنّ حسان حلاق أعاد النظر في كتابة التاريخ اللبناني، فلم يعد هذا التاريخ طائفياً، بل أضفى عليه التاريخ الإنساني. كما أعاد النظر في كتابة التاريخ العثماني، وعمل على تكليف تلامذته من جميع الطوائف ومنهم رهبان، بالكتابة، وأتت مصادره من البطريركية المارونية ومن المحكمة الشرعية العثمانية وكانت لكل الطوائف. بالرغم من مرض السرطان الذي أصابه، فإنه لم يتوانَ عن متابعة شؤون الجامعة والطلاب. فقد وافق قبل يوم من وفاته على تشكيل لجنة للإشراف على أطروحة أحد الطلاب «لأنّ هؤلاء الطلبة هم أبناؤنا وأمانة برقابنا»، كما قال قبل وفاته، وهذه إحدى أهم صفاته الإنسانية، وكان يطمح لتوحيد كتاب التاريخ المدرسي اللبناني، وفق ما قاله لنا الباحث علي حلاق الذي أكد أيضاً أن موسوعة العائلات البيروتية أخذت منه عمل عشرين عاماً.
هل من إرث تركه حلاق، ويحتاج إلى النشر؟ نسأل ابنته نوار حلاق سوبرة التي تجيب: «بالنسبة إلى المخطوطات، لم نقم بالتفتيش بعد في مكتبته الضخمة في البيت كي نعرف ما الذي تركه ويحتاج إلى طباعة، لكننا سنفعل ذلك، ونكمل ما كان يقوم به، فسنبقي على جمعية آل حلاق، ونبقي على تقديم مساعدات لعائلات محتاجة كان يساعدها سرّاً. كان نموذجاً لنا ومثالنا الأعلى، وقدوتنا، وكان أباً لطلابه، وكان يحثّهم على طلب العلم وإكمال الدراسات العليا».