«الإبداع لا يضلّ أبداً» (سلمى الخضراء الجيوسي)في فتوّتي، اعتدت أن أسمع جدتي تقول: كل إنسان بلسان. كان وقتها لي لسان واحد فقط: لسان لغتي الضاد. فلم أفهم، لم أفهم القدرة العجيبة لهذا اللسان الناطق بأحرفه الثقيلة والغريبة أن يحمل عالماً كاملاً، إلى أن ملكت لساناً آخر. لسنوات عديدة، احتلت الألسنة حصة الأسد في قلبي، تسحب بي تارة تجاه التواصل اليومي، وطوراً تجاه الأدب. لم أكن أعي أنّي كنت في طريقي إلى الشعر. في الشعر، فهمت قلب اللغة الذي ندخل إليها من لسان حالها. وهناك التقيت بسلمى الخضراء الجيوسي. بين دفتَي كتاب تعرفت إليها: امرأة نحيلة، بنظارات مثلي وصوت رقيق وقلب عصفور قلق.
امرأة رأت ما وراء الألسن، ومشت بخطى ثابتة لتجسّر القلق.
علاقتي بسلمى الخضراء الجيوسي لم تكن يوماً شخصية. كنت أتابع أعمالها أولاً كقارئة وثم كباحثة وبعدها كمترجمة متمسكة بشعاع ضوء من منارتها التي تشع في عالم أغرقته الضوضاء. بدأت رحلتي مع «الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث»، أشهر أعمالها وأكثرها أثراً في المشهد الأدبي والثقافي العربي محلياً ودولياً. كنت أتساءل وأنا أقرأ ما الذي يدفع بسيدة لتكرّس حياتها لتنقض وتفكك وتترجم الأدب العربي؟ وجدت أجوبتي في ثنايا أعمالها: العصفور القلق ما زال ينبض حياً.
عندما أتأمل في سيرة حياتها، لا أخفي بأن أستحضر البيئة التي أفضت بكل هذا القلق إلى أن يطفو على السطح. السبعينيات والثمانينيات كانت سنوات تعج بالتغيرات السياسية والاجتماعية التي عصفت بالعالم العربي، خصوصاً فلسطين بلد سلمى الحبيب. ما بين انتفاضات وحروب أهلية وحركات تحاول أن تتحرّر، قوبلت الشعوب العربية، أينما حلّت، بتشويه قاتم للصورة العربية: ظلام وخوف ورائحة دخان نفط يحترق ومدن تُطحن تحت رحى الحرب. فماذا فعلت سلمى الخضراء القاطنة في أميركا آنذاك عندما داهمها هذا القلق؟ حملت الأداة الأكثر أثراً: عادت إلى الكلمة وبدأت مسيرة الترجمة.
أطلقت مشروع «بروتا» وهاجسها الأول أن تنقل الغنى العربي ثقافة وأدباً وهوية إلى العالم الغربي. مكّنها المشروع من أن تغزل بصنّارتها شبكة نجاة تضم مئات المترجمين والأكاديميين المهتمين بالأدب والثقافة العربية. عبر عملها الدؤوب بين اللسانين وعبر السنين، استطاعت أن تنجز مقالات وكتباً لا تحصى ارتقت لتكون مرجعاً أساسياً لملايين الطلاب وباحثي الأدب في العالم. وعلى الرغم من أنّ «بروتا» عاش معها حتى داخل بيتها، إلا أنّه لم يكن المحطة الأخيرة. «بروتا» ترجم ولكنه لم يغيّر الصورة وحده، فألحقته بمشروع «رابطة الشرق والغرب» لتكسر صورة اليأس العربي وانعدام الهوية والتشرذم.
عجّت حقبتا السبعينيات والثمانينيات بالتغيرات السياسية والاجتماعية التي عصفت بفلسطين بلد سلمى الحبيب


عندما أفكر في الإرث الذي تركته الجيوسي اليوم، لا يسعني إلا التوقّف مطوّلاً عند أداتها الأقوى: تسلّحت بنقل الكلمة والهوية كأنها تقول لنا قرّاء وباحثين «أن ننقل خشباً يبني جسراً خير من أن نردم الهوة بقش يتطاير». كأن هذا الجسر طمأنينة يعبر بنا من لغة إلى أخرى. هنا نجحت سلمى الخضراء في الجمع بين عالمين ولسانين: اعتمدت على الجمعي العام. كان القلق من انعدام الرؤية، فشملت بصيرتها الكل. ربما تكون الأنطولوجيات المختلفة التي عملت عليها أغنى ما نملك لأنها جمعت بحكمة نقطة ماء من كل بحر عربي، وهكذا تمكنت سلمى من أن تكون الأقرب في وقت نشر هذه الأعمال إلى القراء الأجانب وكان بعض من موسوعاتها: «الشعر العربي الحديث» (1987) و«موسوعة الشعر الفلسطيني المُعاصِر»، و«أدب الجزيرة العربية» (1988)، و«نصوص مسرحية عربية قصيرة» (2003). انتقت أن تجمع الوطن العربي كلّه لا أن تفرق. انتقت بمهارة عازف ناي أن تشمل كامل الأساليب الأدبية، فلم تغفل. هذه مهارة سلمى: ألا ترى الطريق فتشقه بطريقتها، فلم تقف المسيرة على بضعة أعمال انتقائية، بل وصلت إلى أكثر من 60 كتاباً!
أكان هذا القلق عظيماً يا سلمى؟ يبدو أنه كان كافياً، فأتت الكلمات لتواسي. الترجمة فعل طمأنينة، لماذا؟ لأن الترجمة كاشفة. إن كانت الكتابة تعرية للروح، فالترجمة تحمل مصباحاً وتضيء على هذه الروح. بعتب وتعب وجلد، قضت سلمى السنوات لتُعيد تأكيد ذاتها: الإبداع حقاً لا يضلّ! ما يميز تجربتها أنّها لم تقف عاجزة وراء الكلمة، تختبئ بين الألسنة ووراء السطور. كانت نشطة وناشطة في شتى السبل واستطاعت ترك أثر لن يزول أبداً. اتخذت من القلق ضيفاً عبرت فيه بشغف لا ينفد إلى بحر الطمأنينة، منحت لنفسها مهمة لتكملها الأجيال القادمة: أبدعنا ونبدع عربياً، فليرَ العالم ويسمعنا.
خسارتنا جليلة، تبكي أسوار عكا ابنتها وتزفّها مقدسات القدس علماً وتكتبها القلوب من المحيط إلى الخليج صرحاً، لكن سلمى لن تذهب بعيداً، فجلي أنّ كرمها وعطاءها يبقيها لنا حيةً بين سطور الكتب، مطمئنين إلى أنّها باقية، كما أسهمت هي أيضاً في إبقاء كل ما كتبته ونقدته وترجمته حياً ما دمنا نقرأ.

* شاعرة ومترجمة فلسطينية