«موتوا قبل أن تموتوا» عبارة صوفية منسوبة للإمام جعفر الصادق، كان يحلو للأديب والشاعر العاملي سحبان أحمد مروة (1952-2012) تردادها، هو الذي تحلّ الذكرى العاشرة لرحيله هذا العام، في غمرة معراجه الصوفية والعرفانية نحو الله بكل هواجسه وآماله وشكوكه واضطرابه ويقينه. رحلة على قصر عمر صاحبها، كانت نفاذاً من عالم الظاهر إلى عالم الباطن، ومكاشفات حسية وذوقية تجلّت شعراً منذ ديوانه الأول «دفتر الوجع» (1973)، وصولاً إلى ديوانه الأخير «قدّاس جنائزي لرشا محمود الحاج» (2013)، مروراً بترجمة «الكاليفالا» أو ملحمة فنلندا العظيمة، وترجمات أخرى مختصة في تراث الهند والصين وأكثر من مجموعة قصصية وشعرية. أمضى سحبان مروة شطراً كبيراً من حياته زاهداً متنسّكاً في مكتبته في الزرارية في جنوب لبنان، معانياً الأمرّين من مجتمع لا يفهم شطحاته الصوفية وحسّه النقدي اللاذع، ولو أنّ سحبان كان يخفّف عن أهل قريته ويواسيهم بطرائفه واجتراحه البسمة لهم في قلب الرزايا والمصائب، ومن وسط ثقافي وصالونات أدبية أدار له صاحب «سمر الإخوان» ظهره باكراً لينطلق إلى مشروعه في تأصيل التراث ومزاوجة الأصيل بالحداثوي واجتراح تجربة فريدة من نوعها تظهر كل الأبعاد الجمالية في التراث الروحاني العربي والإسلامي وتسييله في الأدب والشعر والعرفان والتصوف. مات سحبان مروة فوق كتبه؛ من بينها ديوان لم ينشر بعد بعنوان «غزليات الله». لكن هذا الموت ــ بحسب العبارة الأثيرة ــ ليس سوى محطة في حياة الزاهد اليساري والعاملي، إذ «الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا». في الذكرى العاشرة لرحيل هذه الشخصية، التي استنارت بالحب والعشق، نوجّه تحية إلى سحبان حيث هو الآن، مطمئناً وقريباً من محبوبه قاب قوسين أو أدنى.

«هناك، هناك، في ظلّ سروة فارغة وفي قبر وسط القبور. في عتمة القبر وسط القبور وفي الليل الذي يلي آخر ليالي الإيناس؛ في الليل الذي يلي تلك الليلة وأنا ممدّد في عتمة وحدتي ولا صوت سوى صوت المطر أو صوت راعٍ تأخّرت أوبته، فراح يستعجل قطيعه أو صوتٌ خافت لحشرة تنبثق من جدار اللحد المعتم لتختلس مع جسدي الزمان لذّة أو بعض لذّة...هناك هناك سأَفرغ لذكرياتي كلّها، وسأتذكّركِ جيّداً وعلى مهل وسأمتصّ السعادة قطرة قطرة كما يمتص جدار اللّحد ماء المطر قطرة قطرة ويسيّله على وجهي، فتحسب أنني أبكي ولكنني لا أبكي، بل أنا فرحان بموتي فلقد فرغت لكِ وللهوى والذكريات كلّها على مهل»: لعلّها كلمات الوداع الأخيرة التي خطّها الشاعر والقاصّ والأديب الجنوبي سحبان أحمد مروة (1952-2012) قبل أن يقضي نحبه في مكتبته التي كان يحلو له أن يسمّيها «القصر»، إذ قضى حياته بينها في قريته الزرارية وبين منفاه الاختياري في فنلندا ليترجم «الكاليفالا» أو ملحمة الشعب الفنلندي إلى لغة الضادّ في أبهى حلّة. صدّر مروة ترجمته الفذة بالإضاءة على الجوانب الشعبية للملحمة التي لا بد لأيّ مترجم من الغوص في ثقافة العامة والغناء الشعبي في سبيل هضمها وترجمتها: «شعر الكاليفالا شعر شعبي، بكل ما يعطيه اللفظ من معنى. فالمنشدون ما كانوا من المحترفين، بل من عامة الناس، غنّوا هذه الأشعار، في لحظات الراحة، ثم إن شعر الكاليفالا ليس مديحاً يكال لطبقة نبيلة ولا إشادة بحكّام أو سادة، بل هو شعر نظمته وغنّته العامة لمتعتها هي».
كان لسحبان مروة إذاً الفضل في تعريفنا بالملحمة التي عدّت انعطافاً في تاريخ الثقافة الاسكندينافية والفنلندية بشكل خاص، إذ أتت رداً على عمر مديد من الازدراء والتعالي اتّسمت بهما نظرة الشعوب والثقافات المجاورة الأخرى إلى فنلندا التي لطالما نُعت شعبها بالهمجية حتى دخلت المسيحية البلاد، فوقفت موقفاً معادياً ورافضاً لكل التراث الوثني الذي يتوجّب على المسيحي الحق إبادته وطمسه والترنّم بالابتهالات الدينية. لكن الشعر الشعبي ظلّ حياً وسليماً، وإن لم يسلم من دخول عناصر دينية فيه. في نهاية المقدمة التي صدّر بها مروة ترجمته لـ«الكاليفالا» (صدرت في طبعتها الأولى عن دار «داناي»/ بيروت، 1991)، نستشف نبل الروح المعرفية لدى مروة، حين يشير إلى الوقت الذي استغرقته الترجمة والصعوبات التي واجهته واحترامه للقارئ المتلقّي للنص: «وبعد، فهذه ترجمة قد تمّ الفراغ منها منذ عقد ونيّف، ولم تصدر قبل الآن، وهي بعد جهد المقلّ، الذي لم يدّخر جهداً في الحرص على صحة النقل وسلامة الأداء على قدر ما أتاح الله له من عقل وملكات. أما أنت أيها القارئ، فصبرك محمود، إن صبرت، وإعراضك مفهوم، إن أدبرت، وإذا أنت افتقدت في هذا الكتاب، أو قُل في هذه الترجمة، ضالّتك، فاحتسب قروشك عند من لا تضيع عنده الأمانات، الذي أعدّ للقرّاء المساكين أجراً عظيماً، ولمترجمي السوء عذاباً أليماً: ولا تنسَ أن المترجم قد أنفق مقابل قروشك أياماً وأعواماً، وهي في حساب الراغبين بالعيش مبلغ عظيم».
تفتّحت قريحة سحبان مروة الشعرية باكراً، إذ نشر الشاب اليساري مجموعته الشعرية الأولى «دفتر الوجع» عام 1973 على نفقته الخاصة وبالتعاون مع جمعية أهلية محلية (نادي الشبيبة الزرارية): الديوان الذي كتبه سحبان بوحي من الجو النضالي في الجنوب اللبناني على بعد أمتار من الأرض المحتلة، وبتأثير من أجواء البيت الذي خرجت منه أخته يسار، رائدة العمل الاستشهادي في الحزب الشيوعي اللبناني وجبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، كان لا بد من أن يصطبغ بأوجاع الأرض الجنوبية والظلم الذي لحق بها من العدو والصديق، فنقرأ من المجموعة التي كُتبت كلها بالعامية في قصيدة بعنوان «الجنوب»: «يا غجري/ البجرابك ملك الجان/ قلّو يظهر/ حلو يظهر/ إلو مني أمان/ صرلي سنين بحرق بخور/ نشف شرياني/ عماني الدخّان/ يا غجري انفض إيدك/ اخلق حيي/ انفض كمّك/ اخلق إنسان/ فكو زنارك شوك/ مخافر ليل ووردان/ يا غجري/ بكفيك قسوة عمرك/ شد غرابيل/ يكفيك التعب/ برحلة ألف ميل/ يكفيك بقداس الكزبي/ تحز وتارك وتنظم تراتيل». استشرف الشاب الجنوبي كذب المرثيات الفولكلورية التي لم تقدّم للجنوبيين في صمودهم سوى الإهمال والكلمات الجوفاء، فكان لا بد من دعوة هذا «الغجري» إلى الانتفاض واقتلاع شوكه بيديه، وإلى مقاومة عينه المخرز: «يا غجري انفض ودَعَكْ/ بشّرني قللي رح يخلق جبل/ ع نوح بيتمرّد/ طوفانو أقوى/ وبيدعس عزراييل/ يا بندوق/ يا ابن الشارع/ ورصيف المعتم بالزاقوق/ صحيو ومشيو/ وإنت محشش ايمت رح تفوق/ لمين بتزقف بتبايع/ بتمد مدايح/ متل رغيف المرقوق/ سرقوك من الوقت/ ووقتك مسروق/ ويقندل ه الحرمان بعينيك/ ولعتمي بصدرك ريح شلوق».
ترك سحبان مروة لبنان إلى فنلندا عام 1978 ليتخصص في الإخراج السينمائي ويعمل مخرجاً في الإذاعة الرسمية الفنلندية وأستاذاً محاضراً في تاريخ الحضارة العربية والإسلامية في «جامعة هيلسنكي»، ليعود عام 1988 بمجموعة قصصية أولى بعنوان «حكايات لا محل لها بين الإعراب» عن دار «داناي»، والقصص التي لم تغب عنها أجواء الحرب اللبنانية والثقافة الشعبية التي رافقت المقاتلين بين المتاريس وفي الملاجئ وعلى الجبهات. إلا أن القراءة تحت الطبقة الأولى للنص، ستكشف عن نسيج عضوي موحّد ومتين يمتزج فيه الثقافي الرفيع بالشعبي العفوي البسيط في لغة سحبان مروة، وجدلية ضارية يشتبك فيها الذاتي الخاص مع الموضوعي العام، ليخرج بمعادلة فنية جديدة عبر كتابة قصصية حديثة فنقرأ: «الجنرال روحاني أصلاً سيدي القائد، فهو والمنجّم لهما علاقة حميمة بالموت: هذا يتكهّن به وهذا يصنعه، ولكن المسألة غريبة حقّاً، فلقد شاهدت بأم عيني جندياً كنت قد أمرت أنا شخصياً بإعدامه في الجبهة بعد محاكمة ميدانية... تصوّر سيدي القائد، لقد عاد إلى سفاهته وكأنّه ما كان ميتاً، ولهذا فلقد أمرت الأمنيين بإطلاق النار عليه، ولقد فعلوا فهوى الجندي صريعاً، إلا أنه سرعان ما هبّ قائماً وكأنه ما لاقى حتفه للحظة خلت، آه يا سيدي القائد إن منظر إعدام هذا الجندي وحتفه ثم قيامته من الموت والرصاص يتناثر منه، بدا كأنه لا يعدو شريطاً سينمائياً تراه في اتجاهين مختلفين». كما لا يغيب عن قارئ المجموعة ظهور لغة صوفية شفيفة في ثنايا النص، واستخدام بعض مطالع السور القرآنية مثل «طا سين ميم» وغيرها من الإشارات التي استعارها مروة من التراث الصوفي والعرفاني الذي انكبّ على قراءته عند اعتزاله للعمل الثقافي بعد تجربة قصيرة أوائل تسعينيات القرن الماضي في إدارة مجلة «الناقد» التي كان يصدرها الراحل رياض نجيب الريس في لندن، ليصدر مجموعة قصصية عن «دار الريس» بعنوان «سمر الإخوان» (1991). بعد هذه التجربة، بدأ مروة رحلة عرفانية كان فيها الكثير من الذوق والمكاشفة، ولا سيما عند تحقيقه للجزء السابع من «رسائل ابن عربي: كتاب ذخائر الأعلاق وشرح ترجمان الأشواق» (دار الانتشار العربي ـــ 2006)، إذ يبدو مروة قد التقط عصب المخيلة والشوق المؤدي إلى الشعر في تراث العلامة البلنسي الذي انعقدت في نتاجه أكبر مصالحة بين الشعر والدين، فيصدّر مروة تحقيقه بما يبدو أنّه خلاصة مذهب ابن عربي في العرفان والعشق: «التصوّف وإن كان طريقة، إلا أنّه في محصلة الأمر مرآة حقيقة، والحقيقة هي أننا كلنا متصوّفة، بيد أن المقامات تختلف، فكلنا يهوى وكلنا يستبدّ بنا الهوى، مهما كان موضوع ذلك الهوى، ومهما كانت لغته، فللهوى سلطان مطلق، وفي ظل ذلك السلطان العظيم ينبجس الشعر وتبرق الأحوال التي صارت مقامات». إلا أن مروة لا يلبث أن ينتقل إلى ما تجريه هذه المقامات والأحوال على صاحبها من غربة وأهوال. كما روي في فذلكة الترجمان، إن الشيخ قد تعرّف في مكة إلى فتاة هي ابنة فقيه رآها، فأعجب بها فهي من عالمات العابدات وإلى العلم والعبادة تجدها تحتكر كلّ أفعل التفضيل في الظرف والتقى والفصاحة، وتزري بكل من ضُرب به المثل في الكرم أو البيان أو الوفاء، «بيد أن العهد لم يطل، فاستبد بالشيخ الشوق والوجد ونظم الترجمان، ترجمان أشواقه وأذاعه على الخلق، ولكن سرعان ما بلغت مسامعه أقوال عن رجال فضلاء لم يفهموا قصده ونحوا بأشواقه منحى أزرى بقدسيتها، فهبّ ليدفع عن نفسه تهمة الغزل والنسيب مفسّراً شعره تفسيراً ذهب كل مذهب في صرف اللفظ عن عانيه أو الاشتقاق من اللفظ».
رحلة سحبان مروة العرفانية والصوفية ستتوّج بكتابين أولهما «نوادر الملّا نصر الدين الصغرى». في لعبة أدبية بارعة هنا، يتم التزاوج في شخصية الملّا بين الظُرف والعرفان والروح التي تشاغب على المؤسسة الدينية التي تصادر تفسير النصوص الدينية، ويبدو الملّا كأنه سحبان نفسه منتصراً للباطن على الظاهر: «وصف نصر الدين قوماً فقال: «يريدون السماء». فسئل: «ألا تريد السماء أنت يا ملّا؟» قال: «بل أريد الأرض، وأشتهي أن أبعث قطرة ماء تسقط على كم زهرة أو ذرّة تراب تستقلّ الريح عربة يدفع الخالق أجرها». «الحمد لله»، قال إمام بلدة آق شهر محدّثاً الملّا: «الحمد لله حمداً كثيراً، فالناس يُقبلون على الدين أيّما إقبال». قاطعه الملّا سائلاً: «ما لي لا أرى إذاً رقصاً وقصفاً ولا أسمع إنشاداً ولا عزفاً؟». كما بلغت التجربة العرفانية أوجها في كتاب مروة الأخير «السديم والهشيم» (دار النهار ــــ 2013) الذي يتقمص فيه مروة مواقف النفّري ولغته، فيكتب نصّاً فوق النص ويطعّمه بنكهة حداثية وتجارب ذاتية وجدانية وعشقية ورسائل إلى شعراء وأدباء يحبهم أمثال فؤاد رفقة وأدونيس وأنسي الحاج. كما تبرز الروح الزاهدة الناصعة التي تستلهم من التراث الديني أجمل ما فيه وتسيّله في الحياة اليومية دونما حاجة إلى وساطة فقهية أو مؤسساتية مع هذا الإرث الروحاني العظيم: «قال وأشار إلى القرآن «كتابي» فقلت «بلى، وأحبه» فسألني أكثر، فقلت: «الحمد ويوسف والضحى». فسألني أكثر، فقلت «الرحمن»، فسألني أكثر، فقلت: «أن أضع يديّ في جيبي وأسير في شوارع مدينة مزدحمة بالأحلام والهواجس والأصوات والرغبات والكوابيس والمطر والغبار، وأنا أصفّر غير عابئ بشيء ولا بأحد، فهذه أكمل وأجمل آياتك في كتابك».
تأصيل الغريب في أدب سحبان مروة والعمل على تحديث النصوص ذات الجذور التراثية والمزج بين الأصالة والمعاصرة فتحا له باباً على الآداب الأخرى، ولا سيما الشرقية منها، فكانت ترجمته لـ«الدهمابادا: كتاب البوذية المقدس» (دار بابيلون 2009)، و«كشاجم» (كتاب أدب النديم عن «منشورات الجمل»، 2011) وقبلهما ترجمة بديعة عن الإنكليزية لمختارات من الغزل الهندي صدرت بعنوان «ليالي الياسمين» (دار الانتشار العربي، 2002) مزج فيها مروة بين باقة من الشعر الإيروسي، ترجمتها فيربي هامين أنتيلا إلى الإنكليزية، ومجموعة أصدرتها «دار بنغوين» العريقة تحت عنوان «أشعار من السنسكريتية» ومجموعة ثالثة من الشعر السنسكريتي القصير صادرة عن «جامعة هارفرد». وقد قسّم مروة تاريخ الغزل الهندي إلى مراحل خمسٍ، مهّد لكل قسم منها بنبذة عن زمانها وعن شاعرها أو شعرائها من دون تطويل أو إضافة.
كان له الفضل في تعريفنا بملحمة «الكاليفالا» التي عدّت انعطافاً في تاريخ الثقافة الاسكندينافية والفنلندية

وأوضح أن الهنود قسموا مراحل العشق الصالحة إلى قسمين: أحدهما الوصال أي وجود عاشقَين معاً واسمه في الهندية «سامبهوغا»، والآخر هو الفراق أو نأي العاشقَين كلّ منهما عن الآخر «فيبرالامبها». كما أنّ «قسم الوصال يعنى بأفراح السرير وملذّاته دون السقوط في حمأة الفحش والرفث في القول». في الشعر، أصدر سحبان مروة كتابين اثنين عن «دار النهضة العربية»، أولهما «وصف ماريا» الذي تمتزج فيه كل الحمولة المعرفية ورقّة العاشق اللطيف والروح العرفانية المستنيرة في لغة موزعة بين الشعر والنثر: «الهواء يقلي الوجوه/ وظلّ الحائط بطوله/ فتعال يا حبيبي وتفضّل/ فعريشة بيتنا تظلّل المصطبة/ وأهلي ليسوا في البيت/ أنا وحدي/ فتفضّل إلى قلبي/ أنشر غدائري خيمة تحميك/ وأقعد تحتها أنا وأنت/ وإذا شئت حمّمتك/ بالعافية يا حبيبي أحمّمك/ من نعيم ولهي أصبّ عليك/ وبعتمة خوفي أن لا أراك أنشّفك/ حتى ينبلج جسدك الغجري كليرة ذهبية في عينيّ شحّاذ». إنها لغة حسية شفيفة يزول فيها الحد بين الجسدي والروحاني وحديقة مبهجة للحواس ودعوة إلى المناولة والنشوة الصوفية الخالصة بمفردات العشق الصوفي الذي عرفناه عند الحلاج وابن الفارض والبسطامي وحافظ وغيرهم: «تفضّل يا حبيبي تفضّل/ أسقيك حتى تبحّ الأباريق/ وتنتشي خمر وأسكر من قبل/ وأسلّم شفتيّ إلى شاهق سفوحك/ وتسلّم ضحكتك إلى سرّ لم يذقه سواك/ حتى يحتفل القلبان في آهة واحدة/ وتنطق العينان بسحب متعثرة/ ونرتخي معاً/ نتمدّد معاً/ ونضمحلّ ويتلاشى لهاثنا معاً»، إضافة إلى الديوان الأخير «قدّاس جنائزي لرشا محمود الحاج». الديوان مرثية طويلة كتبها مرة لوالدته، وقد نشرت بعد وفاته. رثاء يبدو فيه سحبان مستشعراً قرب رحيله هو الآخر، ووصول غربته وعزلته عن المجتمع إلى مداها الأقصى، وخصوصاً بعد غياب الوالدة التي كانت تمثل الدفء في هذا الاغتراب الروحي الكبير: «آآآخ يمّي/ ما ترين ليس حروفاً عربية بل آيات حزن نقشتها الفاجعة/ على رخام الروح/ إنه ابنك وقد أحال الفقد حرفه/ روحه إلى قديد/ يمّي/ ثرثرة الحزين وركض المحب خلف القطار وقد أخذ الحبيب/ كلاهما نثار مرآة تحطمت/ آآآخ يمّي/ أنا في المحطة الآن». لم يطل المقام كثيراً بسحبان مروة بعد وفاة والدته. وجدوه ميتاً فوق كتبه في مكتبته وبين يديه قصيدة من ديوان لم يصدر بعد بعنوان «غزليات الله»، بالعامية هذه المرة كأنه عود على بدء لتلك الروح في دفتر الوجع وقد كتبت كلمتها الأخيرة واحترقت وتعمّدت بالتجربة، فنقرأ في قصيدة من الديوان وجّهها للشاعر أدونيس: «لبستلك الخرق والناي عم يعنّ/ مولانا عم يرقص ويرقص شمس/ وبالعرس عم يرقصوا كل الأنس والجنّ/ عم صب ريحة ورد صدري قدح وصدرك دنّ/ عم صب من القدح ع التم ضحكة سنّ/ مولانا عم يرقص ويرقص شمس/ وبالعرس عم يرقصوا كل الإنس والجنّ/ لا تخاف البخافو، هني البخافو، بس الأموات/ الخسارا: نقطة شاي ومسبحة سودا وعدّ ثلاث كلمات:/ أنا حبيت، أنا حبيت، أنا حبيت/ أنا هزيت، أنا هزيت، أنا هزيت/ أنا توفيت، أنا توفيت، أنا توفيت/ لا تخاف البخافو، هنّي البخافو، بس الأموات/ الخسارا: نقطة شاي ومسبحة سودا وعدّ ثلاث كلمات وبس».

* محام لبناني