رحل عن عالمنا الكاتب والناقد الفلسطيني فاروق وادي (ولد في 14 نيسان/ أبريل 1949 في البيرة في رام الله ــــ توفي في 19 أيلول/ سبتمبر 2022 في لشبونة) كما يرحل الكتاب الحقيقيون الذين لهم صلة قرابة بالكتابة، فلهم فيها حياة أخرى توازي حياتنا هذه، ألم تقل ناتالي غولدبرغ «الكتاب يعيشون مرتين». فاروق وادي عاش مرتين، عاش ليكتب وعاش ليفكر بما يكتب، ومات وهو يريد أن يكتب، إذ رحل وآخر عباراته كما ورد على لسان ابنته شهد «بدي أكتب». هذا هو الكاتب الفلسطيني الذي عاش الكتابة بكل حواسه وانتظر دائماً من الكتابة الهدية التي لم تصل بعد، إذ يحيلنا موته قبل أن يستلم روايته الأخيرة، إلى مقال له بعنوان: «ناجي يعود هذا الأسبوع»، إذ يتذكر فيه الإهداء الذي خطه له ناجي العلي في كتابه «كاريكاتور ناجي العلي: إلى أخوي فاروق.. الهديّة لم تصل بعد».
وهنا يعيد وادي طرح التساؤل من جديد كما ورد في المقال نفسه: «ترى كم اقتربنا من الوصول إلى الهديّة.. أو اقتربت الهديّة منا؟!».
لكنه الآن، وبعد كلّ هذه السنوات على رحيله، ها هو ناجي العلي يعود إلينا كما تعوّد دائماً. يعود دوماً، بخاصّة في مثل ذلك الأسبوع، الذي شهد فعل الرّصاصة الغادرة من كلّ عام، ليردِّد معنا بأسى: «الهديّة لم تصل بعد»، فيقلق الغبار السّاكن على عتباتنا مجدداً ويُعاند قيلولة الأعداء.. كلّ الأعداء.
إنه الرّائي الذي رآنا.. وما زال عن البعد، يرانا..
لعلّ الهدية التي لم تصل بعد هي كل الرسائل التي أراد أن يكتبها وظلت تلح عليه حتى آخر يوم في حياته مثلما كانت تلح على ناجي العلي، فهكذا هو الفلسطيني يموت وفيه شيء من فلسطين، وفيه شيء من الكتابة لشيء سيكتمل يوماً. ويومها تكون الهدية وصلت لناجي وفاروق معاً، وكل من يؤمن بأن الكتابة أحد أشكال التحرر حالها حال السلاح.
روايته الأخيرة «سوداد هاوية الغزالة» (منشورات المتوسط) التي لم يمسكها بيده، اختار أن يكون عنوانها سوداد لعله كان الأقدر على التعبير عما كان يجول في خاطره من أحاسيس ومشاعر حنين، ونوستالجيا، وغربة، وكل ما يمكن أن يعيد المغترب للوطن، فما بالك إن كان هذا الوطن فلسطين، يقول في الرواية: «النوستالجيا قد لا تفي تماماً بالمعنى الدقيق لكلمة «سوداد» قد تقترب الكلمة كثيراً من الشوق... من الاشتياق، لكنها تبقى شيئاً يشير إلى أصعب أشكال الشوق والاشتياق». كما يؤكد أن استخدامه للكلمة عنواناً للرواية ليس «اغتصاب مفردة غريبة نستقيها من لغة لم تنج من تأثيرات العربية إلى حد كبير، ولكننا نستعير منها مشاعر وأحاسيس يجوز استخدامها للبشر كلهم، في كل مكان وزمان. وعليه، فإننا سنبقي الكلمة على حالها، من دون ترجمة، حيثما وردت في السياق، ونعيدها إلى أصلها كلّما وردت في أشعار بيسوا أو أحد بدلائه».
مشاعر تعود بوادي إلى كل كتاباته السابقة ككتابه «ثلاث علامات في الرواية الفلسطينية» عن غسان كنفاني، وإميل حبيبي وجبرا إبراهيم جبرا إضافة إلى «المنفى يا حبيبتي»، و«طريق إلى البحر»، و«رائحة الصيف»، و«منازل القلب- كتاب رام الله»، «عصفور الشمس»، «سيرة الظل»، «ديك بيروت يؤذن في الظهيرة».
رثى الكاتب الفلسطيني محمود شقير وادي: «منذ عرفتك عام ١٩٦٥ وحروفك تنبض بحب فلسطين، وقد ظلت كذلك وستظل على مدى السنين. فاروق وادي… وداعاً».
غادر فاروق وادي الحياة ليبقى دائم، يقول بورخيس: ‏«عندما يموت الكتّاب، يصبحون كتباً وهو في النهاية تجسيد ليس سيئاً للغاية»