«إنه وهم نسمة/ أكثر ممّا هو نسمة حقيقية/ ذلك الذي جعل أوراق الشجرة تتساقط/ حتى من دون أن تشعر أغصانها بذلك/ ومع أنني شاعر أشجار/ أكثر ممّا أنا شاعر أي شيء آخر/ فلم أتمكن من التعليق على المشهد/ فليحاول القارئ - مشكوراً - /أن يعتمد على نفسه هذه المرة/ ويسجّل التعليق الذي يريد/ فإذا لم يستطع/ فلهُ أن يقول/: ليس الهواء هو الذي أسقط أوراق الشجرة/ بل الموت…».أسقط الموت أمس، في حركة هي أقرب إلى العدوان من شجر الجنوب اللبناني وبُركه وعصافيره، الشاعر حسن عبد الله (1943-2022) ابن بلدة الخيام الجنوبية بعد معاناة مع مرض عضال وبحث دؤوب عن مادة الأوكسجين في بلاد تسوق أهلها إلى الهلاك: رحل شاعر الدردارة الذي ضاع الحد الفاصل في عالمه بين سطر الشعر وما يكتبه المزارع (بعيداً عن قصائدنا سطر فجل).
إنها لغة الينابيع الأولى الأكثر التصاقاً بالصخر والتراب كتلك النقوش التي وجدت على جدران كهوف ليسكو وألتاميرا، منذ القصيدة الأولى «صيدا» في «أذكر أنني أحببت» (دار العودة - 1978) التي تبدأ بلغة حسية تشبه نقش القصيدة بالأظافر بتراب الأرض وطينها وفخارها: «حفروا في الأرض/ وجدوا امرأة تزني/ ملكاً ينفض عن خنجره الدم/ حفروا في الأرض/ وجدوا فخاراً/ أفكاراً/ لحناً جوفياً منسرباً من أعماق البحر/ حفروا في الأرض/ وجدوا رجلاً يحفر في الأرض». يبدو المكان الجنوبي هو متن النص يزركش اللغة ويمسّها بمسّ من الطفولة والعبث ويشكل من عناصره معجماً يدل على ذاته بذاته وتعيش مفرداته عالمها الخاص مثل الأشجار والخضر والبقول تماماً كما في الطبيعة الجنوبية المطلّة على الأرض المحتلة التي استشرف عبد الله أفق الصراع مع العدو فيها في قصيدته «شيء من 1948». غرابة أجوائها تلتقي مع ما كتبه أخيراً في زاويته في ملحق «كلمات» حول الطائرات: «كانت إسرائيل لا تزال في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة من عمرها... وكنّا نلعب في ملعب المدرسة الابتدائية، عندما شاهدنا ثلاث أفاعٍ عملاقة، وبأجسام دخانية في أعالي السماء العميقة الزُّرقة. كانت رؤوس الأفاعي تلمع تحت أشعة الشمس، وأجسامها الغيمية تستطيل لمئات الأمتار، لتتلاشى شيئاً فشيئاً عند أذنابها. لم نعرف أنّ هذه الكائنات العجيبة هي طائرات، فانتابتنا رعدة بدائية كتلك التي يمكن أن تكون قد اعترَت الإنسان الأوّل عندما رأى أوّل شهاب أو عاين انفجار أوّل بركان!». إلا أنه لا يلبث في نهاية القصيدة التي ينهيها بطريقة عجيبة أن يتنبأ بغلبة إرادة الحق على إرادة البطش والغزو: «في ذلك المكان من عينيه حيث يوجد الوطن/ وهكذا/ لم يسمح المقاومون للغزاة أن...».


شكّلت مجموعة «الدردارة» الصادرة عن «دار الفارابي» النقطة الأكثر توهجاً في شعر حسن عبد الله، فمن ينسى الأسطر الأولى التي يمكن اعتبارها من أجمل افتتاحيات قصيدة الحداثة اللبنانية خصوصاً والعربية عموماً: «الماء يأتي راكباً تيناً وصفصافاً/ يقيم دقيقتين على سفوح العين/ ثم يعود في سرفيس بيروتَ – الخيامْ/- سلِّم على... سلِّم على.../ يا أيها الماء التحيةُ/ أيها الماء الهديةُ/ أيها الماء السلامْ/- سلِّم على... سلِّم على.../ وعلى الذي في القبر/ واسقِ القبر/ واطلع وردةً بيضاءَ فوق القبر/ واجعلْ أيها الماء النهار مساحةً مزروعةً جَزَراً/ وطيٌر راكضٌ تحت الشتاء/ وانني في الصيف/ من عشرين عامْ/ أفعى على برّ الخيام/ وضفدعٌ في الماء/ والدَّرداره/ عينٌ رأت حُلُماً وفسَّرَه المزارعُ لوبياء». إنها لغة بعيدة عن التهويمات النفسية والخطابات الإيديولوجية، لكنّها تبني قوتها من غرابتها وإكزوتيكيتها، تجرّنا إليها جرّاً لننظر إليها بكامل دهشة حواسنا. لغة لم يجد الحزن مدخلاً إليها إلا عند مقتل حسن حمدان (مهدي عامل) الصديق المقرّب للشاعر عام 1987. نعثر في الديوان الثالث «راعي الضباب» (1999) على مهدي في أكثر من مكان: «فاطمة/ وغيابُ عميق لمهدي كأن مات/ أما أنا/ فيقول الطبيب.../ قال لي/ قال لي/ بعدما جسّ صدري/ وحدّق في سقف حلقي/ وأصغى إلى وصلة من سعالي/ انتبه! قال/ أنت تموت رويداً رويداً». كأن الرصاصات التي أصابت الأستاذ الجامعي قد أصابت من روح شعر صديقه مقتلاً، وهو الذي يقول في حديث غير منشور: «كنا نحب المرأة ذاتها، وكلانا يعطيها موعداً في المكان ذاته، وقبل الموعِد أنا أقول له: اذهب أنت، وهو يقول لي: اذهب انت. كان يشدّني من قميصي، في النهاية ذهبتُ أنا، كنت أشدّه من قميصه، لكنه كان مشدوداً إلى قلمه».
لغة بعيدة عن الخطابات الإيديولوجية، لكنّها تبني قوتها من غرابتها

التقى حسن عبد الله بصديقه في «ثانوية صيدا الرسمية للبنات» حيث عيِّن مدرساً في أوج المد اليساري الذي أثّر فيه عقيدة وشعراً لنسمع قصائده مثل «أجمل الأمهات» و«من أين أدخل في الوطن»، ملحنة ومغناة من الفنان اللبناني مارسيل خليفة، وليتردد مقطع «صامدون هنا قرب هذا الدمار العظيم، وفي يدِنا يلمعُ الرعب، في يدِنا. في القلبِ غصنُ الوفاء النضير» على أثير الإذاعات المقاومة في حرب تموز، حين كانت الحمم تنزل على الأرض الجنوبية من البحر والبر والجو... المقاومة التي ظل حسن عبد الله مؤمناً بفعاليتها حتى مقاله الأخير «استسماك الناس» السبت الفائت في «موجز القول» أو في ما كتبه حول الحرب:
غرب العالَم متوحش
والشرق كذلك
ومع ذلك، فلا يزال هناك من يقول
بأنك لا تحتاج إلى السلاح في قبو بيتك
من أجل الدفاع عن البيت
وأن النشيد الوطني كاف!
لم يتزوج حسن عبد الله، لكنه ترك للأطفال أكثر من ستين قصة (لم ينشر معظمها) وفازت إحداها بعنوان «لكي لا تموت الأسماك» بجائزة مخصصة للأدب الموجّه للأطفال المتوحّدين أقيمت فى فانكوفر الألمانية عام 2017، بعدما ترجمت للغة اليابانية مرفقة برسوم للفنان المصري حلمي التوني. صدقت نبوءة حسن عبد الله في ختام «الدردارة»، إذ لم يمهله تموز أن يسبق العصافير إلى أشجار التين قرب الدردارة، بلى ربما، تلك العصافير هي روحه ذاتها، والشعر نقرها في الكوز المفتوح بقلبه على السهل والماء الذي يجري مسلّماً عليه: «قد لا أكون هناك في تموز ذاك العام/ لكن/ أيها الماء الذي وثب الزمان/ الذي جاء محروراً إليّ/ سلّم عليّ/ سلّم عليّ/ وعليهما/ يا أيها الماء السلام/ عليهما/ الدردارة الصفراء/ وابنتها الخيام».

* تقام مراسم الدفن في جبانة بلدته الخيام (جنوب لبنان) عند الرابعة والنصف من بعد ظهر اليوم الأربعاء. تقبل التعازي قبل الدفن وبعده في منزل الفقيد الكائن في بلدة الخيام، على أن يحدد لاحقاً موعد التعازي في بيروت.