يُعدّ أحمد شاملو (1925-2000) الشاعر الأبرز في خريطة الشعر الفارسي المعاصر بعد نيما يوشيج. تبلورت تجربته من خلال انفتاحها على تراث الشعر الملحمي الفارسي والنثر الكلاسيكي، و«تاريخ البيهقي»، والمدارس الشعرية العالمية الحديثة. أغنى المكتبة الإيرانية بترجمات مهمة في مجالَي الشعر والرواية، إضافة إلى إسهامه في مجال القصة القصيرة وسيناريو الأفلام والبحوث الأدبية. التحق بركب الحداثة الشعرية التي أطلقها الرائد علي إسفندياري الملقّب بـ«نيما يوشيج» منذ عقدها الأول. على مدى نصف قرن، أسهم شاملو في صناعة أيقونته الخالدة في الأدب الفارسي الحديث، إلى جوار قامات كبيرة مثل صادق هدايت وفروغ فرخزاد.

يُحسب لشاملو ترسيخ الحداثة الشعرية من خلال إصدار العديد من المجلات والملاحق الأدبية التي عزّزت مكانة القصيدة النيمائية (الأقرب إلى قصيدة التفعيلة العربية)، سواء تلك التي حملت توقيع الرائد نيما، أو الروّاد الذين ساروا على نهجه الحداثي وقصيدة الشعر الأبيض الأقرب إلى الشعر الحر. وبينما افتقدت القصيدة الحديثة إلى قاعدة رسمية في الجامعات و المؤسسات الثقافية؛ كانت المنشورات وسيلة للكتابة الجديدة ومحاولاتها المغايرة للتعبير عن الإنسان المعاصر في شكل شعري مختلف وبناء لغة أخرى وأسلوب مغاير. من هذا المنظور، يمكن الوقوف على دور شاملو في فتح جبهات عدة للاشتباك مع تراث شعري أُلُوفِيٍّ ذي قوة مؤسّسية وجاذبية معجمية. فيما عزفت الأوساط الرسمية عن نشر القصيدة الفارسية الحديثة، أسّس شاملو إصدارات أخذت على عاتقها التبشير بقصيدة فارسية حديثة. واظب على علاقة متينة بالصحافة على مدار عقود، استطاع عبرها ترسيخ الحداثة الشعرية من خلال التعريف بتجربته الشعرية وتجارب مجايليه الذين أثر أسلوبه النثري الرمزي فيهم وفي لاحقيهم.
كان انضمامه المبكر للروّاد مصدر قوة ومتانة وثقة بالنفس في تمرّده على الوضع الراهن، وانتقاد الاستبداد ومدح العدالة. أخذ الشعر دون غيره من الأشكال الأدبية والأنماط الفنية على عاتقه، فتح اللغة على آفاق جديدة في التعبير السياسي والاجتماعي، وكان التعبير الشعري أقل تعرّضاً للرقابة من النثر. وعلى غرار أغلبية مثقّفي اليسار، كان مقرّباً من حزب «تودة» ومناصراً له، وكانوا يرون الشعر ملتزماً اجتماعياً إلى حدّ ما على غرار شعراء الثورة الدستورية أو المشروطة الذين مهّدوا للحداثة الشعرية التي سجلت ولادتها الرسمية مع قصائد نيما يوشيج. إلا أنّ انخراط شاملو في العمل السياسي كان مجاوراً على الدوام للشعر الجديد والتأليف. حارب النظامَ القديم في الأدب، ومن ناحية أخرى، أسهم في تطوير الشعر الذي لم ينفك عن النضال من أجل العدالة والتحرّر من الاستبداد.
يعتبر مجلّده الشعري «الهواء النقي» نقطةَ تحول أساسي في الشعر الفارسي الحديث. وصفه بعض النقّاد بأهم حدث شعري بعد ديوان حافظ الشيرازي، في هذا السياق، يعلّق الفيلسوف والشاعر الإيراني ضياء موحد: «يمكن لأي شخص يقرأ «الهواء النقي» اليوم أن يرى أنّ هذه اللغة، هذا النسيج، مختلفان عن أيّ شيء آخر. في الشعر المعاصر، قلّة أنجزت هذا النوع من الإيقاع مثل شاملو. «الهواء النقي» أعظم حدث في شعرنا بعد حافظ».
انتقل في شعره تدريجاً من المُثُل السياسية والاجتماعية إلى النزعة الإنسانية والمثالية الإنسانية، جامعاً لحظات الحب الخفية مع الألم العام، والمعاناة الإنسانية، الإنسان في خضم متاهة الوجود. لا بد من الوقوف هنا عند نقطة أساسية، فالعدمية التي اتسمت بها قصيدة شاملو في نماذجها الناضجة حصيلة أكثر من مصدر، من الانفتاح على الفكر الوجودي الذي انتشر صداه في الثقافة الفارسية في ستينيات القرن الماضي، وعدمية تضرب جذورها في التراث الشعري الفارسي، الخيّام تحديداً. تسلّح شاملو أيضاً بالثقافة الغربية الحديثة في قراءة التراث الفكري الفارسي، والثقافة الفرنسية أساسية في مشروعه التحديثي. على صعيد الأسلوب، هناك الشعر الأبيض الذي أسّس له شاملو وعُرف أيضاً باسم الأسلوب الشَّامْلُوِي. هو في العمق استلهام مباشر من الشعر الأبيض الفرنسي، الذي تأثر به شاملو، وإن كانت لغته مزيجاً من الكلمات القديمة والمصطلحات العامية والإزاحات النحوية ومحايَثَة نصوص الأدب القديم ولغة الشارع والسوق، ما جعل الشعر مقروءاً وبليغاً. في حوار صحافي، يعترف شاملو : «تأثرت بماياكوفسكي وإيلوار ولوركا، ومن ثم بحافظ الشيرازي. تعمّقت في الشعر الكلاسيكي لأرى وأعرف عظمة حافظ من منظور جديد».
في مجال الترجمة، تولّى شاملو ترجمة قصائد شعراء عديدين إلى اللغة الفارسية. ويمكن القول إنّه قدم إلينا شعراء أمثال مارغوت بيغل وهيوز ولوركا. قدم ترجمات حرة، حيث الإخلاص للنص الأصلي كان أقل وضوحاً، وكان الهدف النهائي تقديم قصائد تتوافق مع شعرية اللغة الحاضنة، المستضيفة. من أهم مجموعاته: «الهواء النقي»، و«حديقة المرايا»، و«أيدا في المرآة»، و«اللحظات والأبدية»، و«أيدا: الشجرة والخنجر والذكرى»، و«مراثي التراب»، و«التبرعم في الضباب»، و«إبراهيم في النار»، و«أغاني الغربة الصغيرة»، و«مدائح بلا صلة». هنا مقتطفات من الأعمال الشعرية التي صدرت حديثاً عن «منشورات الجمل» بترجمة غسان حمدان

أنا أَلَم مشترَك، اصرخِينِي (*)

ترجمة: غسان حمدان

1. ليلية
كيفَ يمكنني أن أكتُب قصيدةً في الليلِ
تَتحدَّثُ عن قلبي كما عن زِندي؟
في الليل
كيفَ يُمكن
كتابة مثلَ تلك القصيدة؟
***
أنا ذلك الرماد البارد الذي
تستعر فيه شرارةُ التمرّدات كلها،
أنا ذلك البحرُ الهادئ الذي
تكمن فيه صرخةُ العواصف كلها،
أنا ذلك القبو المظلم الذي
تكمن فيه نارُ الإيمانيات كلها.

2. سرّ
كنتُ أملك سرّاً
بحتُ به إلى الجبل
كنتُ أملك سرّاً
أفشيتُه للبئر
في الطريق الطويل
أفضيتُ به إلى الفرس الأسود.
وحيداً بلا رفيق
أخبرت أحجار الطريق بها.
***
وصلتُ من الطريق
بِسرٍّ عتيق
لم أتحدَّث
لم تتكلمي
أطبقتُ فمي
قرأته من عينيّ.

3. حكاية
صرتُ ظلَّ غيمةٍ، وخيَّمتُ على السهولِ:
انطلق الحطّاب وعلى ظهره حمل شوك
قال عابرٌ صامتٌ، وقد كساه الغبار، لنفسه:
«- هه! ما فائدة أن يكون الإنسان ظلَّ غيمة؟»
صرتُ حمامة برية وطرتُ من البرجِ المتهدم
علّقَ الفلاّحُ قميصه على خشبةٍ، فوق البيدر
ظللَ حارس السهل، خارج الكوخ عينيه بيده وقال لنفسه:
«- هه! ما فائدة أن يكون الإنسان حمامة وحيدة لبرجٍ قديم؟»
صرتُ غزالاً برياً وعدوتُ من الجبل إلى السهل
صرخ الأطفال ضاحكين في السهل.
مرّت عربة متداعية، وقال الحوذي الهَرِم لنفسه:
«- هه! ما فائدة أن يكون الإنسان غزالاً بلا قرين في سهلٍ بعيد؟»
صرتُ سمكة بحرية وطويتُ المسافة من مستنقع الضفادع إلى الخليج.
صرخ النورس بحرقة من ساحلٍ مهجور
قال الملاح، القريب من زورقه على الرمال الرطبة، مع نفسه:
«- هه! ما فائدة أن يكون الإنسان سمكة هائمة في بحرٍ صامتٍ وباردٍ؟»
■ ■ ■
صرت حمامة برية وطرتُ من البرج المتهدم
صرتُ ظلهَ غيمة وخيَّمتُ على السهول
صرتُ غزالاً برياً وركضتُ من الجبل إلى السهل.
صرتُ سمكة بحرية وطفوتُ على المياه الداكنة
ارتديتُ خرقةَ الدراويش وقرأتُ الأورادَ
صاحبتُ البكم وبحثتُ عن الأسرارِ في البلاد المخيفة
انتعلتُ سبع أحذية حديد وسرتُ نحو جبل «قاف»
طائر «القاف» كان أسطورة، قرأتُ الأسطورة وعدتُ
اجتزتُ أراضي الأقاليم السبعة مترنحاً
طرقتُ بابَ منزلِ السحرة ولم أغمض جفناً
فتشتُ عن طائر الماء في الجبل والسهل والصحراء، وعبثاً بحثتُ.
إذن صرتُ سمندلاً واستقررت في نار الناس.

4. الحُبّ العام
الدمعة سرٌّ
الابتسامةُ سرٌّ
والحبُّ سرٌّ
■ ■ ■
ودموع تلك الليلةِ كانت ابتسامةَ حُبّي.
■ ■ ■
لستُ قِصّةً تروينها
ولا نغمةً تُغنّينها
ولا صوتاً تَسْمعينه
أو شيئاً بحيث تَرينَهُ
أو شيئاً تَعرفينهُ…
■ ■ ■
أنا ألمٌ مُشتركٌ
اصْرخيني.
■ ■ ■
الشجرةُ تتحدث مع الغابة
العُشبُ يتحدّث مع الصحراء
والنَّجمةُ مع المجرّة
وأنا أحدّثكِ.
فبُوحي لي باسْمكِ
هاتي يَدَكِ
وقولي كلامَكِ لي
وامنحيني قلبَكِ
فإنني أدركتُ جذورَك
ونَطقتُ، بِشَفَتَيكِ، لكلّ الشفاهِ
ويَداكِ تألَفانِ يَديّ.
وفي الخلوةِ المُضاءةِ بكيتُ مَعك
من أجلِ الأحياءِ،
وفي المقبرةِ المُظلمةِ غنّيتُ معكِ
أجملَ الأناشيدِ
لأنّ أمواتَ هذا العام (1)
كانوا أكثرَ الأحياءِ هياماً.
■ ■ ■
هاتِ يَدكِ
فيداكِ تألَفانِي
إني أتحدّث إليكِ
يا من وجدتُكِ مُتأخّراً
كما يتحدّث الغيمُ إلى الطوفان
كما العشبُ معَ الصّحراء
كما المطرُ معَ البحر
كما الطيرُ مع الربيع
وكما تتحدّثُ الشَّجَرةُ مع الغابة
لأنّني
أدركتُ جذوركِ
لأنّ صَوتي
يألفُ صوتك.

(1) إشارة إلى أعضاء الحزب الشيوعي الذين أعدموا أو تمت تصفيتهم تحت التعذيب.

5. أحبك
ما من ليل عندنا
ولا يتصالح الصوت مع الصمت
الكلمات تنتظر.
لستُ وحيداً معك، وما من أحد وحيدٌ مع أي أحد
والليل أكثر وحدة من النجوم...
■ ■ ■
ما من ليل عندنا
أحجار الزند متوثبة بجانب الفتيل
غضب الزقاق في قبضتك
وفي شفتيكِ، يُصقل الشِعر الناصع
أحبك، فيرتعب الليل من ظلمته.

6. ينبوع
في العتمة بحثت عن عينيكِ
في العتمة وجدتُ عينيك
وامتلأت ليلتي نجوماً.
■ ■ ■
ناديتك،
وفي أشد الليالي عتمة ناداك فؤادي
فجئتِ نحوي على رنين صوتي.
بيديكِ أنشدتِ ليديّ
لعينيّ بعينيكِ
لشفتيّ بشفتيكِ
وبجسدك أنشدتِ لجسدي.
استأنستُ بعينيك وشفتيك
استأنستُ بجسدك،
خمد شيءٌ فيّ
تفتح شيءٌ فيّ
ومرة أخرى استغرقتُ في النوم في مهد طفولتي
وأعدتُ اكتشاف بسمة زماني ذاك.
■ ■ ■
كان الشكُّ قد عشّشَ فيّ.
جرت يداك نحوي مثل ينبوع
وتجددتُ، أيقنتُ
عانقتُ اليقين مثل دمية
ونمتُ في مهد السنوات الأولى؛
في حضنك الذي كان مهد رؤاي
وبسمة ذلك الزمن عادت إلى شفتيّ.
بجسدكِ هدهدتِ جسدي.
كانت عيناك معي
وأنا أغمضتُ عينيّ.
لأن يديك كانتا تبعثان على الاطمئنان.
■ ■ ■
الشرّ ظلمةٌ
والليالي مجرمةٌ
يا محبوبتي، ويا يقيني؛ أنا في خصام مع الشرِّ
وأغنّيك كما لو أنكِ يوم كبير.
■ ■ ■
أناديك، أصيخي السمع فقلبي يناديك
لقد أقامَ الليلُ جداراً حولي
فأنظر إليك،
من نوافذ قلبي أنظر إلى نجومك
لأن كل نجمة شمسٌ
وأنا أصدّقُ الشمسَ
وأصدّقُ البحرَ.
وعيناك ينبوع البحار
والإنسان ينبوع البحار.

7. تخطيط
غنّى
الليل
متأخراً
بحنجرة دامية
والبحر
جلس جامداً.
فيصرخ
غصنٌ
في عتمة الغابة
نحو الضياء.

8. المطر
عندئذٍ رأيْتُ سيّدةَ غرامي المتكبرة
تُفكّر على عتبة ملأى باللوتس
بسماء ممطرة
عندئذٍ رأيْتُ سيّدةَ غرامي المتكبرة
على عتبةِ المطرِ الحافلة باللوتس
وقد استسلم قميصها لريحٍ مرحة.

وعندئذٍ رأيْتُ على عتبةِ اللوتس
سيدةَ المطرِ المتكبرة
تعود من سفرِ السماءِ المنهك.

9. أنا وأنت..
أنا وأنت فمٌ واحد
مع أغانيه كلها
يمكنه الغناء بأجمل الأناشيد.

أنا وأنت عينٌ واحدة
تجددُ
العالمَ
في نظرتها.

ثمة حقد
يمنعنا من كل شيء
ويفصلنا عن كل شيء
ويجبرنا
على البحث في أطرافنا –
إنها اليد التي ترسم، باطلاً،
خطاً وقحاً.

أنا وأنت حماس واحد
وأسمى من أي لهيب،
فما من شيء يمكنه هزيمتنا
لأن أجسامنا أصبحت منيعة
بفعل الحب.

10. ميعاد
أحبُّكِ أبعدَ مِن حُدودِ جَسَدك.
امنحيني المرايا والحباحب المشتاقة
امنحيني النور والشراب
والسماء العالية وقوس الجسر العريض
والطيور وأقواس القزح
وكرّري النغمة الأخيرة
في المقام الذي تعزفين.
■ ■ ■
أحبُّكِ أبعدَ مِن حُدودِ جَسَدي.
في ذلكَ البعد البَعيدِ
حيثُ تنتهي رسالةُ الأعضاءِ
ويخمَدُ تماماً
لهيبُ النبض والتمنّي
ويغادر كلُّ معنى إطارَ الّلفظِ
كما تسلم الروحُ الجسدَ
في نهايةِ السفرِ،
كي تسلمها لهجمة نسورِ نهايته..
■ ■ ■
أحبُّكِ أبعدَ من الحُبّ
أبعد من الستائر والألوان.

أبعد من جَسَدَينا
امنحيني موعداً لِلِّقاءْ.

11. رثاء
في ذكرى رحيل الشاعرة فروغ فرخزاد
في بحثي عنكِ
أبكي على عتبة طريق الجبال
وأعتاب البحار والأعشاب.

في بحثي عنك
أبكي في معبر الرياح
وفي تقاطع الفصول،
وفي الإطار المحطم لنافذةٍ
يصنع إطاراً عتيقاً
للسماء الغائمة.

في انتظار صورتك
إلى متى
إلى متى
سيتم تصفح
هذا الدفتر الخالي؟
■ ■ ■
الاستجابة لهبوب الرياح
وللحب
حيث إنه أخو الموت -
وقد شاركك
الخلودُ
أسراره.
فتجسدتِ في صورة كنزٍ ما:
واجباً وباعثاً للحسد
وكنزاً من دلك النوع الذي
يجعل امتلاك التراب والأوطان
محبباً على هذا النحو!
■ ■ ■
اسمكِ فجرٌ يمرّ على جبهة السماء
- فليُبارك اسمك! -
ونحن لا نزال
ندور وندور
في أيامنا وليالينا
وما زلنا كذلك...

12. طبيعة صامتة
إلى ميترا إسپهبُد (2)
رزمة ورق
على الطاولة في أولى نظرات الشمس.

كتابٌ مبهمٌ وسيجارة استحالت رماداً قرب قدح شاي منسي.

بحثٌ ممنوع في الذهن..

(2) فنانة تشكيلية إيرانية.
(*) مقتطفات من الأعمال الشعرية الكاملة لأحمد شاملو، صدرت حديثاً عن «منشورات الجمل» في بيروت.