«مَنْ لم يشُكّ لم ينظُرْ، ومَنْ لم ينظُر لم يُبصِرْ، ومَنْ لم يبْصِرْ بقي في العمى والضلالة». هذه من أروع العبارات، وأحكمها، وأكثرها صدقاً ونفعاً للانسان في كل مكان وزمان.ولكن العَجب، كل العجَب، أن قائلها هو الامام ابو حامد الغزالي (المتوفي سنة 505 للهجرة) صاحب الكتاب المشهور «إحياء علوم الدين» وغيره الكثير من الكتب التي نالت الكثير من القبول والرضا من عامة أهل الاسلام.
أما لماذا العَجَب؟! فذاك أمرٌ بحاجة الى كلامٍ يطول.
فالامام ابو حامد الغزالي، الذي اعتبر أنّ عليه مهمة التصدّي للدفاع عن الاسلام تجاه الضلال والمنحرفين ولإعلاء مذهب اهل السنة بين المسلمين، ألّف كتاباً أسماه «تهافت الفلاسفة» خصّصه للهجوم على الفلاسفة وأهل الحكمة والنظر والكلام ممن لا ينسجمون مع المذهب الرسمي السائد.
وقد ذهب في كتابه الى حدود الشطط والغلوّ في هجومه على العقل والعقلاء. ففي معرض محاججته لإنكار دور العقل في الدين والايمان، وصل الى درجة نفي مبدأ العلّيّة! نعم، لقد أنكر الامام الغزالي المبدأ البديهي الذي لا يماري فيه الاّ مكابر وهو أنّ المقدمات تؤدي الى النتائج وأنّ العلّة تؤدي الى المعلول، وأن هناك علاقة تلازم بين الاسباب والمسببات.
ولنترك الكلام للغزالي وهو يضرب الأمثال للقارئ «الاقتران بين ما يعتقد في العادة سبباً وما يعتقد مسبباً ليس ضرورياً عندنا. فليس من ضرورة وجود أحدهما وجود الآخر ولا من ضرورة عدم أحدهما عدم الآخر. مثل الريّ والشرب، والشبع والأكل، والاحتراق والنار، والنور وطلوع الشمس، والموت وجز الرقبة، والشفاء وشرب الدواء... وان اقترانها انما هو لما سبق من تقدير الله سبحانه لخلقها على التساوق لا لكونها ضرورياً في نفسه». ثم يوضّح أكثر: «بل في المقدرور خلق الشبع دون الأكل وخلق الموت دون جز الرقبة وإدامة الحياة مع جز الرقبة». فبالنسبة للغزالي: من قال إن النار هي سبب للاحتراق؟! كلا انما هو الله الفاعل الوحيد. كل شيء في هذا الكون يفعله الله، بإرادته. وأما ما نتوهمه من اسباب طبيعية للحوادث، فهو مجرد «اقتران» للأحداث التي يخلقها الله، أي ضربٌ من «العادة» لا أكثر.
وختاماً بشأن الامام ابي حامد الغزالي، أرغب في إثارة الاشكالية الكبيرة والظاهرة في تناقض قوله السابق بخصوص ضرورة الشك وإعمال الفكر وعدم الانقياد والتسليم وبين كلامه الآخر تماماً في «تهافت الفلاسفة».
فهل يمكن أن يصدر القولان المتناقضان من رجل واحد؟ وبعبارة أخرى: ايهما الغزالي الحقيقي: الداعي للشك والتفكير أم عدو العقل والفلسفة؟
والجواب عندي: مر الرجل بتحوّلات وتقلبات فكرية مختلفة بمراحل حياته المتتالية (فلسفة، تصوّف... ). وبالتالي صدر منه الكلام المتناقض كما رأينا. ولكن المؤكد أنه استقر أخيراً على ما في كتابه «احياء علوم الدين» ونبذ الفكر والفلسفة والتصوّف وقعد مستقراً في أحضان المذهب الرسمي السائد....  وبالتالي كان لا بد من «تهافت الفلاسفة».