قالت لي: ألا تريد أن تزورنا؟ أما تبغي أن تعود جورج وهو على فراش بين موت وحياة؟ أما تحب أن تتصفح وجهه في المقلب الثاني من جريدة «السفير»؟ لقد أخبرتني أنك عشقت صفحته وهي تلامس السياسة بأصابع من أدب، وتخوض تحليلاً لا يمنع النحو من الصرف..قادتني من يدي، أصعدتني في سيارة أجرة. من مرآته، كان السائق يرنو إليها متبسماً. نظرت إلى وجهها، تأملت شعرها المشتعل بالنقاوة. على طريق الذهاب، عدت بالذاكرة إلى قصر الأونيسكو ... إلى حفلة توقيع الأستاذ عبد الغني طليس كتابه «فوق رؤوس العالمين»، حين نهضت نجاة فجأة متلحّفةً البياض، معتمرة قبعة النقاوة وراحت تتنقل راقصة على وقع الكلمات ونقراً على أوتار ليست من هذا الزمان. قلت لها: أنت؟. قالت: ما بك؟ قلت أنت ذياك النغم من خطوات؟ ابتسمت، قالت أنا.
وصعدت بي درج عتيق، تفوح من حفافيه عبق المصيطبة، كنت أشم رائحة البرودة والغرابة وزمناً حلواً... أتلمس بيد نجاة الأمان، وزمناً ليس موصولاً بزمن، كأنه الفجر ووسن وليس من رقاد.
فتحت الباب، دخلت إلى ردهة، عبرت أمامي، ممرّ تحيط به أبواب، وجدران رمادية يزينها لون الخشب الأزلي ولوحات وصلبان، ينتهي الممر بغرفة، وقفت نجاة على بابها وأشارت لي بأن اقترب.
دخلت الغرفة، يحدوني شوق لرؤية جورج ناصيف، من كتب تحليلاً سياسياً، ونقداً لاذعاً بأسلوب سردي هو أقرب إلى أقصوصة وجدانية منه إلى مقال. وقد استقيت منه أسلوبي في الكتابة. مسحت بيدي الوحيدة جبينه المتعب. أمسكت يده العاجزة عن الحراك. قبّلت وجهه. ابتسم لي راضياً.. تمتم لي ببضع كلمات وصلني منها رضا وشكراً ودعاء... ودّعته وخرجت.
في الردهة، قالت نجاة لي: لن تذهب بلا غداء. قادتني إلى طاولة سفرة وكانت معدة، أكلت، وكأس نبيذ من يدها شربت. كان النهار مختلفاً.. بديعاً في تساقط الضوء متسللاً من فتحات النوافذ العالية لتلك العمارة العتيقة. اليوم رحلت نجاة نعيمه إلى الضوء والحنين من الذكريات...