حينما أخبرتني الدكتورة حياة الحويك أنها تكتب رواية، لم يثر ذلك استغرابي، فشخصٌ مثلها لديه تجربة عميقة في الحياة، وعلى هذا القدر العالي من الثقافة، ويمتلك مخزون ذاكرة غنياً، لا بد في لحظة ما أن يفكر في كتابة رواية. فضلاً عن ذلك، هي تستند إلى خبرة ثرية في الكتابة والتأليف، صحيح أنّ جلّها في مجال الفكر والإعلام والصحافة والترجمة والنقد الأدبي، غير أنّها كتبت أيضاً أربعة نصوص أدبية طويلة: نص مسرحي، «الدائرة»، ونص آخر شعري «حوار الأنهر: الأردن - الدانوب»، ونص سردية ذاتية «لم يكن أبي»، ونص سردي عن يوميات المرض «أشهد موتي أشهد ولادتي»، هذا فضلاً عن لغتها وأسلوبها الأدبيّين اللّذين يشدّان القارئ من السطر الأول في مقالاتها الصحافية.كانت تسقي نباتات الزينة على شرفة منزلها، تمسك خرطوم الماء وتصوّبه نحو التربة وأحياناً ترش أوراق الشجيرات لتغسل الغبار عنها. الوقت ربيع وعطر زهر الغاردينيا يعبق في الجو. تقول لي إن هذه الرواية تجول في بالها منذ زمن طويل. أتساءل إن كانت رواية سيرة ذاتية. فكثيراً ما يبتدئ الكتّاب مسيراتهم الأدبيّة بسيرهم الذاتية، لاسيما إذا شرعوا بالكتابة بعد أن تختمر تجاربهم، ويصبح من السهل النظر إليها برؤية موضوعية تنحاز للحقيقة لا لانفعالات وسياقات اللحظة التي حكمت تلك التجربة.
لا. إنّها عن الحرب الأهلية اللّبنانية واجتياح بيروت. تخبرني. «هي أيضاً سيرة ذاتية لك ولكل جيلك»ــــ يخطر في بالي، بينما تسترسل هي بلهجتها العاميّة اللبنانية المعجونة بالأردنية: «بس بدّا شغل كتير لسّا. حاسّة إنّي زودت شوي بالسياسة». وقبل أن أعلّق، تروح تشكو لي ضيق الوقت. عدا عن انشغالاتها الأكاديميّة في الجامعة، هناك دوماً مشاريع كتب ملحّة تخص اللحظة الراهنة ويجب إنجازها. هناك الأبحاث والدراسات التي تكتبها لتشارك بها في مؤتمرات حول الإعلام وغيره، هناك المقالات الصحافية اليومية والأسبوعية، هناك المشاركات في البرامج الحوارية التلفزيونية. مشاغل كثيرة لا تقبل التأجيل، والرواية لا تحظى إلا بساعات مسروقة من هنا وهناك، ثم تُؤجّل إلى حين التّقاعد، من دون أن تكفّ حياة عن الحديث عنها. أتفهّم ذلك، فالعمل الإبداعي يظلّ يتلوّى في داخلنا ويعذبّنا، ذاك العذاب المرّ واللّذيذ في آن، إلى أن يكتمل.
يؤلمني للغاية أنّ حياة رحلت وفي قلبها غصّة موجعة: لقد خذلها جسدها وتواطأ مع الموت ضدّها ليسلباها ليس سنيناً قادمة كان بوسع حياة أن تحياها وتعطي فيها الكثير، وحسب، بل ليسلباها أقلّ القليل. أشهرٌ قليلة فقط تُكمل فيها الرواية وتراها وهي تخرج إلى النور.
ينتابني إحساس وأنا أفتح ملف مسودة هذه الرواية كأنني أدنو لأحمل بين يديّ جنيناً ولد قبل موعده. طفل سباعي وُلد للتو مكتملاً من حيث البنية، لكنه لا يزال بحاجة لعناية خاصة. في الوقت ذاته، أشعر بتشريف يثير رهبتي واعتزازي، لأن حياة في أيامها الأخيرة أخبرت ربى ــ ابنتها ـــ أنها تنوي إعطائي مخطوط الرواية حينما تنتهي من العمل عليها، كي أقرأه قبل النشر.
منذ البداية، يلفت انتباهي انشغال حياة بالشّكل الفني للرواية، فبلغة أدبية بليغة مكثفة وعالية، تشدك بسلاستها وجمالية التعبير فيها، تتنقل حياة، بأسلوب أجادته بامتياز، ما بين اختلاف الرواة وتعدد الأصوات. مرة تذهب للراوي العليم ومرة أخرى ـــ مما يشغل المساحة الأكبر من الرواية ـــ تجعل البطلة هي الراوية. في كلتا الحالتين، نجد السّرد ينتمي إلى ما يسمونه بأسلوب تيار الوعي، حيث الخط الزمني فيه مكسّر، يختلط فيه الماضي مع الحاضر في سياقٍ محكومٍ بتداعيات ذكريات وأفكار أبطال الرواية.
هذا من حيث الشكل. أما من حيث المضمون، فسأعترف أنني شعرت بأسفٍ ما وما زلت في بداية الرواية، إذ لم يعد بوسعي نقاش حياة بما كانت هي ذاتها تدركه جيداً وتخطّط للعمل عليه: طغيان الثيمة السياسية. كم كان بودّي أن أؤكد لها أن إحساسها كان صحيحاً، وأنّني أرى أنه كان من الأفضل لو قدّمت الحدث الإنساني والشخصي إلى الواجهة ودفعت بالحدث السياسي إلى الخلفية، لاسيّما أنّ ثمّة أحداثاً إنسانية في الرواية يمكن تطويرها والعمل عليها لتصبح حبكة مهمة تجري على خلفية حدث سياسي عاصف. قصص حب وخيانات وسفر وهجرة وغربة.
انتابني هذا الإحساس لنقل في الربع الأول من الرواية. بعد ذلك بدأ يتفتت شيئاً فشيئاً إلى أن تلاشى في النهاية، ليحلّ محلّه إحساس آخر نقيض: أن من الصعب على هذه الرواية أن تكون بشكلٍ آخر أو بحبكةٍ أخرى.
أمضي قدماً في القراءة، وأثناء ذلك أسأل نفسي: بالفعل! ما أهمية خيانة شخص ما لحبيبته في لحظة اجتياح بيروت أو لحظة حدوث مجزرة صبرا وشاتيلا أو قبل ذلك أثناء التوحش الإنساني والقتل والتصفيات خلال الحرب الأهلية؟
كلّ الهموم الإنسانية الفرديّة تبدو حقاً هامشية على خلفية أحداث كبرى تهدّد وجود الشخصيات المصيري. أمام هذه الأحداث، تصبح مفاهيم كالمقاومة والتحرير هي الهاجس الأول والأهم الذي يشغل بال أبطال الرواية ويقلقهم في العمق، فنراهم يقفزون بسرعةٍ وسهولة عن مشاكلهم وصراعاتهم الشخصية، كأنما يقفزون عن حاجز منخفض. فالكوارث التي تغلي وتتطور كل يوم وكل ساعة من حولهم، والصراع الكبير مع العدو سواء كان متمثلاً في الوحش الطائفي أو العدو الصهيوني المباشر، لا يُبقي لهم متنفساً لأن يحزنوا أو يعطوا للخيبة حقها من حبيبٍ خان.
قالت الرواية ذلك بعفويّة وصدقٍ نابعين من جينات تشبه الجينات التي تحدّد شكل الجنين، تلك التي لا نملك سلطة عليها، فيولد بصفات نحدّدها نحن دون أن نقرّرها بعفوية، مرّت الرّواية سريعاً على أحداث في الحياة الشخصية لأبطالها، بينما فردت صفحات لمستجدات الحدثين السياسي والعسكري، ثم مرّت سريعاً عن أحداث شخصية أخرى، تلتها صفحات غليان سياسي واحتلال ودماء... وهكذا دواليك.
لست هنا بصدد تقديم قراءة نقدية للرواية، خصوصاً أنها لا تزال مسودة، إنما ما أسعى لقوله الآن هو شيء آخر: إن حياة في روايتها هذه لم تجانب الحقيقة، فذاك الجيل ـــ جيلها ـــ الذي عاش عنفوان شبابه في الحرب الأهليّة والاجتياح والاحتلال هو كذلك بالفعل كما وصفته الرواية بدقة: صحيح أنّه يتلهّف للحب والعشق والاستمتاع بماء زهر حياته، لكن هذه اللهفة سرعان ما تتبخر في الهواء أمام حدثٍ جلل يهدد الوطن والأمة، فيتناقشون ويتجادلون ساعاتٍ في السّياسة باحثين عن الحقيقة، والموقف الصحيح. جيل كان محكوماً بأولويات أخرى، أدركها بمسؤولية واتخذ قراراته الشخصية بناءً على تلك الأولويات وليس العكس.
لم تكتب حياة قصص شخصيات مهمومة بالأنا ومشاكلها، بل كتبت رواية أخرى بطلها آخر: كتبت رواية لبنان. حيث الهم هنا هو «نحن». إذ لا يمكن للبنان أن يتعافى إلّا إذا تعافى من الأنا، بكل تمظهراتها الطائفية والمذهبية والعقائدية، وتماهى بجباله وبحره وسهوله مع الـ «نحن».
لعلّ تلك هي المقولة العليا للرواية: تحويل الهم الوطني إلى همّنا الشخصي. وهذا بالتحديد ما فعلته في روايتها، فمن دون ذلك لن ينجو الوطن ولن ننجو بالتالي نحن. تلك هي المعادلة التي حرّرت بيروت سريعاً من الاحتلال. لقد تمثلها ذلك الجيل، فهمّش همومه الشخصية وكرّس حياته لغاية المقاومة، مضحّياً من أجله بماء زهره ـــ بشبابه. ولولا تلك التضحيات لكانت بيروت ترزح لغاية اللحظة تحت الإحتلال.
فضلاً عن ذلك، لم تغفل حياة في «ماء زهرها» عن تحليل البنى النفسية لأبطال الرواية. كأنما أرادت أن تقول فيها كل شيء. أن تضع فيها حصيلتها المعرفيّة وفهمها العميق لأسباب حروبنا وهزائمنا. عبر روايتها هذه، تقدم حياة نقداً لبنية العقل العربي، وقبلتيه الراسخة التي تنتصر على الفكر التقدمي وتكشف هشاشته في اللحظات الحاسمة. فها هو عامر، اللبناني المسلم، يرفض، مع أنه ناصري قومي، علاقة اخته بشادي، متذرعاً بمبررات واهية يخفي خلفها السبب الحقيقي، فشادي مسيحي فلسطيني. تحفل الرواية بأمثلة أخرى من هذا القبيل، وكلّها تفضي إلى أزمة المثقف التقدمي العربي، الذي لم يحسم بعد معركته الخاصة مع موروثه الثقافي والديني والقبلي، وبنية عقله الماضوية المتناقضة مع ما يهتف به من شعارات حول الحرية والتحرر.
لقد ظلت حياة تمارس النقد والمقاومة حتى آخر أيامها، في كل فعل تمارسه وكل كلمة تكتبها أو تنطقها. بل إن بطلة روايتها التي حاولت في لحظة ما من حياتها اعتزال السياسة والنضال كي تعيش لذاتها، لم تنجح، وسرعان ما عادت لفعل المقاومة بزخم ورغبة في التضحية تفوق رغبتها التي كانت في البدايات.
أي رسالة أو أي وصية تحملها هذه الرواية؟
كأنما حياة، في مماتها تماماً كما في حياتها: تعكف على الحضور والمساهمة في الحدث الراهن، خصوصاً أنّ لا رواية لبنان انتهت ولا رواية العرب انتهت.
أقرأ وطوال الوقت يرتسم وجه البطلة في مخيلتي بملامح وجه حياة، ربما بسبب قربي منها، وربما بسبب التقاطعات الكثيرة بين البطلة وبين مؤلفتها. ثم أتوقف عند فقرة أرى فيها وجه حياة بوضوح:
«أتيت بفتاة تساعدني في تنظيف شقتي قبل أن أتركها، مددت الخراطيم وغسلت كل شيء، كل الشجر الذي يتسلق المنزل من أعلى الى أسفل. دلكت أوراق شجيرة الغاردينيا التي تحتل زاوية الشرفة المزججة الصغيرة التي تؤدي الى غرفة معيشتي. عندما تزهر في الربيع القادم لن أكون هنا. لن أقطف زهرة أضعها في الإناء الأبيض المخروطي قرب سريري».
أهو هاجس الموت الذي يقيم في مضاجعنا كما يقول جلجامش، ما دفعك لكتابة هذه العبارة يا حياة؟
لقد أدرك جلجامش بفلسفته العظيمة، بعد رحلاته الطويلة أن لا خلود للإنسان الفرد، بل الخلود للفعل الإنساني، للأثر الذي يتركه خلفه، لهذا عاد إلى مدينته أوروك وبنى حولها جداراً عظيماً.
وجدارك عالٍ يا حياة، وهذه الرواية ستولد وستعيش، فليطمئن قلبك ولتسكن روحك بسلام.