تحت عنوان عالمي مفتوح على التنوّع والتفاعل الحضاري هو «الأصوات والجسور»، صدر أخيراً العمل الغنائيّ الجديد الذي تم البدء به خلال فترة الحجر الصحي، وجمع أسماء فنيّة إيرانية مرموقة عالمياً في مجالاتها، على رأسها المغني والشاعر علي رضا قرباني، والملحن والموسيقيّ إحسان مطوَّري، والموزع والموسيقي علي منتظري. تفرّع من اجتماعهم عبر أغاني العمل تعاون مثمر مع فنانين مرموقين من بلدان أخرى. لكن يهمّنا هنا أن نتناول إحدى أبرز أغاني هذا العمل التي تطال منطقتنا الشرقيّة وشعوبنا من باب معاناة المرأة (العربيّة والتركيّة والإيرانيّة وغيرها). رغم أن «موتيف» العمل ككلّ يدور حول المرأة والحب، لا المعاناة أو الحرمان، فإن هذه الأغنية تحديداً تناولت معاناتها. وقد تمّ التعاون مع فنانين شاركوا في هذه الأغنية عبر معاناة نساء بلدانهم تحت عنوان «النساء مِثلي». ما يعنينا إذاً، هو نسختنا اللبنانية العربية التي مثّل لبنان بها الشرق الأوسط كلّه، وكان الشعر فيها من نصيب الشاعر الإيراني المرموق أحمد شملو، مع إضافات عربيّة للشاعرة السوريّة مرام المصري، وكان الغناء من نصيب وأداء الفنانة اللبنانية المميّزة بشخصيّتها المحببّة، وصوتها الدافئ مايا حبيقة. الأخيرة كانت مع عازف البيانو الأميركي مايك بلوك Mike Bloke المشاركين الوحيدين من مجموعة «سيلك رود» Silk Road التي أسسها عازف التشيلو الأبرز عالمياً الياباني يويوما. علماً أنّها مجموعة تنخرط فنيّاً في هموم التعريف بجماليات موسيقى شعوب العالم غير المنتشرة في الغرب.
إذا عدنا إلى أغنيتنا التي صارت متوافرة على يوتيوب ووسائل التواصل الاجتماعي، فهي تتعاطى مع موضوعها بحساسيّة فنيّة نوعيّة تضيء بإبداع فنيّ على ما تعانيه المرأة من شجون وحرمان ومعاناة، عاكسة غياب الحب وحضور الاستغلال والكبت. كيف يحضر الحبّ إلى هذا الواقع المؤلم؟! قد يصعب تصوّر حضوره إلا من باب الحب نفسه مع المودة والرحمة، لتختصره جماليات الصوَر الشعريّة والأدبيّة بحرارتها ووصفها وتفاعلها التضامني، الذي جمع قصيدة الشاعر أحمد شملو بقليل من توصيف مرام المصري في تصوير هذه المعاناة. يضفي شملو ما تحتاجه المعاناة من جرعات كبيرة من الأمل والحب الذي عرفت لُغَته الشعرية الفارسية كيفية الغوص لوصف طريق الخلاص. تتلقّف الموسيقى والتوزيع قصيدة شملو، لتتوازى بأنسجة الألحان بتآلف بوليفوني مدروس أوّلاً، وبتفاعل مونوفوني مقامي محلي ساحر ثانياً. يتفاعل نسيج هذا المزيج الساحر مع مرارة الواقع، فيقول التناقض بين الحب والمعاناة، التي عبّرت عنه مايا حبيقة بسرّ صوتها الساحر. تتفاعل الكلمة والنغمة بملابسات التجلي الفني بالموسيقى والغناء. هنا لا بدّ من الإشارة إلى ارتكاز العمل إلى التفاعل في الدويتو (ثنائيّة صوتيّة). كيف تفاعل صوتا الفنانين قرباني وحبيقة؟ وهل أدّى هذا التفاعل وظيفته فنيّاً؟ هذا التفاعل حصل بحساسيّة نوعيّة وعفويّة راقية أوّلاً من خلال الصوتين ذوي الطبيعتَين المختلفتَين، اللّذين يكمّلان بعضهما بثنائيّة التعبير (قوة/ نعومة، ذكوريّة /أنوثة، سالب/موجب) أي الضّدَّين اللذين يضيئان بعضهما بالتآلف والانسجام (حبّ). هذا لجهة التفاعل الأدبيّ الفنيّ، أمّا من الناحية الموسيقيّة، فقد كان الصوتان متآلفَين بقوّة، ما ربط الشعر بالموسيقى. عندما كانت جملة حبيقة الغنائية تأخذ طابع السؤال، تفاعلت معها فوراً جملة قرباني بهويّة لحنيّة لها طابع الجواب، والعكس أيضاً صحيح. ما يعني أن هذا الدويتو الغنائي قد عرف منذ اللحظة الأولى كيفيّة دخول طبيعة الصوت على النص الشعري للغناء بارتباطه بوظيفته الفنية عبر سؤال وجواب، والتعبير بما يربط بين الباريتون والسوبرانو من تفاعل. لم يكن هناك أيّ زيادة أو نقصان بينهما في حساسية ودقّة التعبير عن المعنى، ولو بنوتة واحدة فائضة عن اللزوم! هذا الدويتو كان، منذ اللحظة الأولى، مُنَزَّهاً عن الثرثرة أو الميوعة، أو عن كلّ ما لا يخدم لحظته الفنيّة، سواء في الشعر أو اللحن أو ذكاء التوزيع الذي كان خلّاقاً في عولمة التفاصيل الفنيّة المتشابكة وهي ترتبط بجذورها ومخيّلتها المحليّة.
الجملة اللحنية للنص الموسيقي كانت حُرة، ونجحت في استقلالها عن الجملة الموسيقية خلال حركتها فوق النسيج الموسيقيّ المركب بالبوليفونيا، تماماً كما نجحت الجملة الموسيقية الموزّعة المستندة إلى قوانين التآلفات الهارمونيّة الموداليّة، فتحرّرت بذلك من الجملة اللحنية، ليفيض هذا الاستقلال بينهما بكثير من الحِرَفيّة وهما يتفاعلان ببعضهما بحبّ وتكامل بعيداً عن الاسترخاء الطربي أو التعبيري، ونجح بذلك في لفت النظر إلى المتانة الفنية التي رفعها هذا الدويتو بنسيجه البوليفوني العام.
ثانياً، التوزيع الأوركسترالي جاء مقتصداً في عدد الآلات، لكنّه بقي مخلصاً لروح النص وجماعيّة العمل عبر تحرّره من الاستسلام للمونوفونيّة أولاً وللسيولة اللحنيّة ثانياً، وهما يقاومان بحرارة لإثبات قدرة الموسيقى الشرقيّة على عولمة نفسها بجذورها ومصادرها المقاميّة، سواء كانت عربيّة أو فارسية أو تركية. فتحاكي بذلك العصر والعالم من الداخل!
داخل هذا الدويتو، تظهر غزارة ورحابة حضور الحبّ في شخصية المرأة الشرقيّة وعطاءاتها. أثبت عازفا البيانو والتشيللو وهما يؤديان ما كتبه الموزّع، قدرة الموسيقى الشرقيّة بأنواعها على الذهاب إلى العالم بتفاعل داخلي يستطيع التعبير بحريّة عن المضمون الفني للأعمال الموسيقية الغنائية السامية، بما لا يقطع مع الجذور الثقافية للحضارات الشرقيّة، وهي تلامس بإمكانياتها العالية قدرات التفاعل مع أصوات العصر، حيث وصل البيانو في بعض ضواحي العمل ليلامس بعض العوالم الصوتيّة لبلدان أميركا اللاتينيّة، بعافية وصدق لا تساومان على النوعيّة والثبات.
لم يضعف تقليل استخدام الآلات شيئاً من نوعيّة العمل، بل عمل باقتصاد تعبيري لم يترك شيئاً ناقصاً ليقع في المصادفة أو الكسل. اللافت هو أهميّة ما قاله الفيديو، الذي سار مع العمل ليكشف حقائق لم يشأ النصّ قولها عن واقع المرأة عندنا، فرغم أنّ المرأة الإيرانيّة من أكثر النساء تقدّماً وإحرازاً للمنجزات النوعيّة في طبيعة دورها في المجتمع الإيراني، ورغم كونها معزّزة مكرّمة، وهذا ما لا يعرفه كثيرون أو يتجاهله العارفون به لأسباب سياسيّة، ومع ذلك نجد المرأة غائبة عن حقل الغناء، لأسباب دينيّة لا تخفى عن اللبيب. أعتقد أن هذا هو ما يريد أن يفسّره الفيديو الحافل بعناصر فنيّة ظاهرها البساطة لكنّها تستبطن جماليات العمق والصدق في التعبير عما لا يريد النص الإفصاح عنه.
باختصار هذا الدويتو الرائع يقول الكثير في الفنّ، لكنّه بحاجة لسماعه ومشاهدته مرات عدة لأنّه لا يمكن للمُتلّقي أن يكتشفه كله دفعة واحدة، بل سيظهر له تباعاً. العمل يحمل قيمة فنيّة تحفل بالمتعة إلى جانب قِيَمِه الفكريّة والثقافيّة الأخرى، فما بالك بإنجازاته الفنيّة شعريّاً وغنائيّاً وموسيقيّاً، ولناحية فنّ التوزيع الذي أبدع فيه علي منتظري مع علي رضا قرباني ومايا حبيقة وإحسان مطوّري والبقية. في الختام، مايا حبيقة كانت مبدعة في إيصالها للأمانة الفنية وتستحقّ التهنئة والإضاءة، وربما جائزة من ضمن جوائز كثيرة يستحقّها هذا العمل المبتكر!