بعضُ الكتب حتى و إن تناولتْ أدبيّاً مجموعةً من الحكايات المترابطة بعضها ببعض لتعبّر عن سيرة حقيقية لمدينة ما، إلّا أنك لا يمكن إلا أن تقرأها كمرشدٍ يقودك إلى تلك المدينة، لتخلق حميمية جميلة والنص الذي بين يديك والصور التي يهربها خيالك من الأمكنة الموصوفة، إذ تتوحّد المُتعة والمعرفة في نصٍ يروي لكَ ذاكرة شخصٍ يرصد فيه ذاكرة مكانه الأوّل حيثُ كلّ شيء كان في بداية تشكله، وهذا ما قادتنا إليه ذاكرة عدنان داغر في كتابه «صفحات من ذاكرة الحنين: سيرة فلسطينية ـــ حكاية المكان والإنسان».والذي قدّمه نعيم ناصر. إذ أنّ الكتاب عبارة عن مجموعات من القصص الحقيقية أو بعبارة أخرى مجموعة حكاياتٍ حقيقية تسرد جانبًا من سيرة عدنان داغر، الطفل في قريته مزارع النوباني وكيف ظلّت تلك القصص حيّة بذاكرته وكأنها حدثت البارحة.
يتناول في القصّة الأولى السجحة الفلسطينية ومدلولاتها التي تشبه إلى حدٍّ ما الأغاني الشعبية الجزائرية أو الشعر الملحون، فيما يبدو أن التراث الفلسطيني يتقاطع والتراث الجزائري من حيث رسائله في هذه الأغنية مثلاً.
لعل هذه القصة بالذات تسمح للذاكرة بأن تشرِّع أبوابها لكلّ واحدٍ منا كي يتذكر مكانه الأول، هناك حيث بدأ يتشكّل وعيه بالأشياء خاصة الموسيقى الشعبية منها، كما أنه قدم نقداً لما امتزج بهذه الأغاني من موسيقى هجينة في أيامنا هذه أفسدت براءتها الأولى.
يأخذنا أيضاً إلى حكاية أغنيات وأهازيج الحصاد ليقرب لنا الصورة أكثر، صورة هذا الموسم بالذات، موسم الحصاد، وما يمثله للفلاح الفلسطيني بشكل خاص. فهو لا يستقبله بشكلٍ عادي بل يحضر له كما يحضر للأعراس.
كما عبّر عن مصطلح «العونة» ما يُسمّى في الجزائر «بالتويزة» أي الهبة التضامنية بين الجيران والأصدقاء للمساعدة في إنجاز أمرٍ ما في وقتٍ قياسي، ولا ينطبق على الحصاد فقط بل كلّ شيء في حياتهم الاجتماعية يحتاج مساعدة جماعية.
ذهب بنا إلى تقليد آخر وهو التغني بمنجل الحصاد وما يعنيه هذا الموروث لهم، كذلك الغناء للريح وللمذرات.
تحدّث أيضاً عن بيت الديوان أو ما يسمى «بيت الضياف» كما نقول نحن، وهو عبارة عن مضافات تستخدم لاستقبال الضيوف خاصة الغرباء حين لا يتسع البيت لذلك، والأكيد أن بعض الدول العربية تتشارك في هذا، لربما هذه العادة أكثر رسوخاً عند الفلسطينين، لكنها تظل عادة عربية تعبّر عن كرم العرب، انتقد أيضاً تغير الحياة الاجتماعية في القرى الفلسطينية، إذ تغيّر بيت الديوان ولم يعد موجوداً، وهذا ليس بفلسطين فحسب بل بكلّ الدول العربية، الكثير من الأمور التي كانت تربطنا بالماضي لم يعد لها وجود بسبب التطور التكنولوجي الذي قضى على تلك الحياة بكلّ ما تحمله من جماليات.
الجميل في قصص عدنان داغر أن لكلّ قصة عِبَراً تتجاوز تجارب الفلسطيني لتعبّر عن فكرة واحدة، وهي أنّ الشعوب العربية تتشابه، يربطها الدين واللغة والتقاليد بخلاف الأوروبيّة، خاصة ظروف حياتها في فترة ما، وهذا ما يدل على أن المكان هو الذي يؤثر في ساكنيه وليس العكس.
تحدث عن الامتحان العام المسمى «المدرك» في فلسطين وأعتقد أنه امتحان خاص بهم دون غيرهم على الرغم من أنّ مراحل الدراسة نفسها مقارنة بالجزائر.
كما عبر عن فكرة لعلّ القارئ يشاطره الرأي ذاته، إذ يرى أنّ التعليم آنذاك كان أكثر كفاءة وجدوى من الآن، وهذا بالفعل حقيقي وليس فقط في فلسطين؛ لأن الطالب ذلك الوقت لديه الوعي الكافي بالتعليم، حتى الأستاذ كان حريصاً
على أداء واجباته بمهنية، كذلك البرنامج ذلك الوقت كان مفيداً.
الآن، لا الطالب طالب ولا الأستاذ أستاذ ولا البرنامج ثريّ يبعث على الأمل في تكوين أجيال بمخزون معرفي كبير.
كان يتحدّث بالكثير من الحنين والشوق لقريته مزارع النوباني الموجودة في رام الله وأحواشها، فالحوش له المدلول ذاته بالجزائر، إذ أنه تحدّث بالتفصيل عن الننوي والأحواش الموجودة آنذاك. أما حكاية الطابون، فأعتقد في ما أعرف أنها متعلقة بفلسطين فقط، وقد أشار إليها بقوله إنّ فلسطين تنفرد بالطابون، فهو يرى أن حاجة الفرد الآن إلى أكل صحيّ دفعه إلى الحنين لعادة الطابونات.
كما تناول موروثاً شعبيّاً آخر تتميز به قريته وهو أغاني البكاء والنواح التي أظن أنها أيضاً من عادات فلسطين.
أعاد تمثيل مشهد البُكاء حتى تكاد تشعر أنك معهم. لفت انتباهي تطرقه لعادة لم أسمع عنها قِبلًا وهي «الترويد»، ما يُغنّى في وداع العروس.
الواضح أنّ قريته كانت تعيش بداخله، إذ أنّ مياهها وينابيعها كينبوع عين الليمون والينابيع الأخرى ما زالت تتدفق مياهها في ذاكرته، حتى المطر هناك كان له وقعه الخاص بالنسبة له «مطيرة السطوح».
إذ راح يتغنى بشهر آذار وخميس البيض مسترجعاً حكاية شهر نيسان الذي أنصفته الطبيعة وظلمه الإنسان. تناول مواسم الجني، فالموسم الجيد عندهم يُسمى ماسية والموسم السيء شلتونة.
كما تناول أكلة الرصيع أو الرصيص، ولعبة السيجة وحكايات بابور الطحين الذي لم يبقَ منه سوى ذكريات في البال على حدِّ تعبيره والخريفة أو ما يُسمّى بحكايات الجدات ودور الداية بقرى فلسطين.
عدّد عدنان داغر وديان قريته، مخاترها، ساحتها، شيوخها كمحمد عودة،مستذكرا حكاية موسم الزيتون وبابور الزيت. وبابور الطحين، وصابون زيت الزيتون، وبيدر القمح، وحكايات باص العبد عوض،وكذلك حكاية جده وقصته وبرد قريته،وحكاية راجح السلفيتي.
لعل أكثر حكاياته المؤثرة قصة «ستي عائشة» كما يناديها أهل القرية، وحكاية «ستي مليحة» التي عاش عندها لفترة ما، وقد قال لها عنها: «ستي مليحة، كم أحببتك، و تمنيتُ لو طال بك العمر لأحبك أكثر». وكيف وصف موتهما وحيدتين..
هكذا هو الإنسان سيظل شديد الصلة بكل ما يقوده لذكرياته الأولى التي انطلق منها للحياة واكتشف معاني الوجود.
حكايات سيرته لها طعم نصوص الطفولة التي مهما قرأنا ومهما عرفنا من تجارب ستظل لصيقة بنا؛ لأنها بطريقة ما صنعتْ نظرتنا للحياة وللوجود.
هكذا هو عدنان صنع من قصصه ذاكرة فلسطيني، زاده في كلّ مكان ذكرياته وحنينه لها، لربما عندما كتبها شعر أنه تقاسمها والآخرين كي لا تموت مزراع النوباني و فلسطين التي عرفها بقلبه ووجدانه قبل أيّ شيء.
سيرة جميلة تستحق أن تنقل بعض قصصها في الكتاب المدرسي كي تستفيد منها الأجيال القادمة.