«الشِّعر، أنْ تكسوَ العراءَ لحماً، ثم تمنحه قلبك وروحك» هكذا عرَّف الشاعر الفلسطيني فخري رطروط الشعر في ديوانه الجديد «نصف كيلو من السعادة» (دار خطوط وظلال ــ 2021). حقيقة بعض الكُتب والدواوين، لا تجتهد في البحث لها عن مقدِّمة مناسبة أو تعريف معيّن، لأنّها ببساطة شديدة؛ هي بحدِّ ذاتها تعريف للشِّعر ومدخلٍ للحياة بكلِّ ما تحمله للإنسان من خيرٍ وشر، من فرحٍ وسُرور، من تساؤلات ستظل عالقةً في ذهنه حتّى يغادرها. إذاً الشِّعر هو إحدى الحالات التي يحاولُ فيها الشاعر البحث عن معنى لوجوده في حياة لربَّما كانت قاسية نوعاً ما، وكما يقول رطروط في ديوانه «الجميلون في الشِّعر رديئون في الحياة.» تُرى، أيّ قسوةٍ وأيّ ألم دعا هذا الشاعر لقول ذلك.
جاء الديوان على شكلِ تساؤلٍ كبير يطرح تساؤلات عن معاني كلّ الأشياء؛ التي لو تعرَّضنا لواحدةٍ فقط منها، لأخذَتْ منَّا الكثير من الوقت والجُهد لفهمها واستيعابها، ضمن صيّاغ معيّن خارج حيّز الشعر، كما أنه أتى على تعاريفٍ جاءت بشكلٍ شعريّ فلسفيّ، يحاول من خلالها أن يرسمَ لكلّ شيء الصورة والأفكار التي يريد طرحها.
نحن أمام شاعرٍ يريد أن يشفى من ذاكرته ومن الغربة بالشعر، يقول عن البلد الذي يقيم فيه «نيكاراغوا وجع السؤال». ومن هنا تكاد تبرزُ لكَ ملامح تشكّل القصيدة عند رطروط الذي يعيش الغربة بذاكرة الفلسطيني، وبوجع المغترب، وبحسرة الشاعر، وهو الذي طرح مراراً وتكراراً معنى أن تكون فلسطينياً ولاجئاً، ومَا يعني لكَ هذا إن كنتَ شاعراً مغترباً يبحث في كلّ شيء عنه، وعن هويّته.
هنا رطروط لا يكتبُ الشّعر فحسب بل يكتبُ نفسه لكي يرى من خلالها الشّعر.
يقول «هل هناك مقبرة في العالم تخلو من قبر فلسطيني؟» متسائلاً أيضاً عن قدَر الفلسطيني الموجع بسؤال أكثر قساوة من الأول: «هل يكون للفلسطيني مخيمات بين الجنة والجحيم؟».
لكنه يعود مجدّداً للقول بأنّ «الفلسطينيين: قوقعة سلحفاة مفخّخة.»
وهو الذي لم ينسَ للحظةٍ معنى أن تكون بذاكرة فلسطيني، فالذاكرة هي ما تبقى له كي يقاوم هشاشة الحياة وشاشة الأخبار القادمة من فلسطين، يقول:
«لماذا لا تنسى؟
الماضي غذائي الوحيد».
يرى أنه يعيش أكبر كذبة في الوجود وهي العيش بحدِّ ذاته، و أزمة أن تكتبَ الشّعر من دون أن تُجن، الشّعر بالنسبة له رديف الجنون:« لم أقرأ في سيرة شاعرٍ عربي أنه دخل مصحًّا نفسيًّا، ألهذا شِعرُنا دون المستوى؟»
متسائلًا مرّة أخرى عن جدوى أن نعيش ومتى تنضب بطّارية الكون على حدّ تعبيره، مبرزًا أنّ كلٌ المعايير تغيّرت والعالم تغيّر بل لربما هو يواجه نهايته:
«متى يفهم كارل ماركس أن هناك رأسًا لكن لا يوجد مال؟»
وقوله.
«لِمَ لا تتحوّل الجُثث تحت التراب إلى جذور؟»
يعود مرّة أخرى للشّعر وجدواه «لو لم يخلق الله الشُعراء، لظلّ هذا الجمال غير مبرر.»
«لكنه يطرح تساؤلًا في ما يبدو خطيراً «هل يكره الله الشُعراء»
الملفتُ في ديوانه هذا أنه لم يقدّم قصائد وعبارات جاهزة لكلّ شيء، بل منح لكلّ ما خطرَ في باله من معاني الوجود مفاهيم جديدة تخصُّه وحده، إذ يعبّر من خلالها على كلّ شيء في الحياة بمفهوم مغايرٍ تماماً لِمَ اعتدنا أن نقرأ، فهو لا يطرح شعراً وحسب بل يطرح أفكاراً في الحقيقة، لكن ما وصل إليه شِعرُ اليوم من تمييع وقتلٍ تحت سبق الاصرار والترصد، جعلنا نشدّد على القول بأن بالفعل ما يكتبه رطروط شعر يتجاوز التراكيب المستهلكة للشعر، والتي أبعدت القارئ العربي عن التعاطي مع الشعر.
«إنجازنا الوحيد على الأرض الحطام، فلا تكن صاحب الحطام الأكثر.».
«الكلمات نوافذ سجن مفتوحة على ساحة إعدام.»
إلى جانب الأفكار التي يطرحها، فهو يقدم نقداً صريحاً للشعر «كيف يجرؤ شاعر برتغالي على الكتابة بعد فرناندو بيسوا؟»
وطبعاً النقد شمِل الأدب، والحياة على الصعيدين العربي والعالمي.
يقول: هل اليمن سعيد! ماذا تعرفون عن شعراء زنجبار؟ كيف كان شكلُ الحياة قبل الفايسبوك.؟ إذا كان الآخرون هم الجحيم، فأين الجنة؟ هل تكره الصور الإطارات؟
ينتمي شعر فخري رطروط إلى الوجود الإنساني الذي يطرح أسئلةً حول الحياة، الموت. شعرٌ منفتحٌ على الحياة بمفهومها الواسع وليس محصوراً في كليشيهات معيّنة سوّق لها أغلب الشعراء العرب، تلك التي ربطت الشعر بالخمر، المجون، التدخين والنساء، في حين أن الشّعرَ ينتمي للإنسان وحده في كلّ مكان، إنه لحظة مكاشفة مع الذات، لا تخضع لشيء، وإن خضعتْ لتصنيف معيّن، سيغيب الشعر، ويصبح مجرّد كلام مباشر، وإن كانت تنتمي للشعر فالأكيد تنتمي للشعر الغنائي أو شعر المنابر الذي لا يقول شيئاً، فالشّعر الذي لا يطرح فكرةً جديدة أو يدافع عنها لا يعوّل عليه.
إذن، خالفَ رطروط التيار ليكتب قناعاته، ليكتب شعراً يميل إلى الفلسفة أكثر منه إلى الشعر، شعرٌ يقدّس الفكرة على شكل الكلمات واللعب على الكليشيهات _كما ذكرتُ_ التي قتلتْ فيما أعتقد الشّعر الحديث.
جاء ديوانه كمرآة حقيقيّة تعكس هواجس الشاعر وتأمُّلات المفكّر وأحلام الفلسطيني وأزمة المثقّف.