«لأنك تتلفُ امرأةً رقيقة مثلي/يظنُّكَ الصحبُ شريراً/ ولا تخفق في عنقكَ/ فراشةُ الندم/ على الأقل/نجحنا/ كلٌّ في قيده/ بإغراق العالم/ في التباسه البديع». منذ مجموعتها الأولى «طقوس الظلام» (١٩٩٤) التي أتبعتها بـ «مزاج خاسر» (عن دار المدى العراقية بتقديم من الشاعر سعدي يوسف)، حجزت الشاعرة اللبنانية عناية جابر (مواليد السلطانية/ جنوب لبنان ـ ١٩٥٨-٢٠٢١) لنفسها مكانة خاصة على خارطة الشعر اللبناني خصوصاً، والعربي عموماً.

تتراءى القصيدة عند عناية جابر لمسات عفوية وفوضوية مستلّة من عبارات يومية يمكن لقاموسها أن يكون غايةً في الاقتضاب، ولكنه يكفي ليصنع مزيجاً مبهجاً من البصري والحسي والوجداني والتأملي، مثل ما نقرأه في «أمور بسيطة»: «هذا مجرّد مساء صغير/ سأنام/ فأنا تعبةٌ للغاية/ وسأترك القمر مضاءً لسهر آخر/ ذلك كل شيء»، أو في «أستعدُّ للعشاء»: «عادةً أفعل لأجلك/ الحركة التي تحب/ كأن أغني في غرفة/ ومن غرفة ثانية/تسترق السمع/ أنت الذي تعزف كل هذه الأشجان/ تجعل لشوقي رأساً...وتلويه»، وأيضاً: «ماذا لو/ غرفة صغيرة/ في فندق بعيد/ وجبة واحدة/ وكثير من القهوة/ ثمة وقت متاح/ إذا أعجبتني الفكرة». الشعر هنا ليس إنفاذاً لنظرة ثاقبة في الأجزاء المهملة من العالم الذي يحيط بنا فحسب، وعدسة مكبرة تلمح بها الشاعرة أشياء متناهية الصغر في الكون ليصبح القميص أو العشبة أو قطرات المطر أبطالاً للقصيدة، بل هو قبل أي شيء طريقة للسُّكنى في العالم تعبّر عن نفسها بألف شكل. هو توقّد للعين التي تبحث خلف النافل والعابر والمهمل، وحساسية خاصة للأذن التي «ترى» أيضاً الكلمات وهي تمرّ من أجل إيقافها للتحديق بها. الشعر نوتات موسيقى داخلية والحروف طرطقة المطر على زجاج الروح، وبخاصة حين نعرف أن جابر قد أولت «الأذن التي ترى» في الغناء والموسيقى عنايةً خاصة، وأحيت العديد من الحفلات الخاصة بالموسيقى العربية والطرب الأصيل، فكان أبرزها في «دار الأوبرا» في القاهرة، وفي «قصر الأونيسكو» في بيروت وعلى خشبة مسرح الـ «أسمبلي هول» في الجامعة الأميركية و«مسرح المدينة» في بيروت. كما التوازن في الموسيقى بين الصوت والصمت، والإيقاع الذي يعلو ويخفت، اهتدت عناية جابر مبكراً إلى عبارة شعرية تبدو حواراً بين صوتٍ ومعنى ومخيّلة وحواس. عبارة يحضر فيها الكثير من مشاهد الحياة اليومية بأعبائها الصغيرة والمطرزة بمزيج من المتعة والحسرة و«مصفوفة الفراغ» ــ بتعبير رولان بارت ـــ التي تتأرجح كساعة الرمل بين الامتلاء والفراغ: «فاتحة لشيء ما/ حركتك الحائرة/ تحضير للوحة/ وشبيهةٌ/ بحركة مماثلة في أسطورة قديمة/ وهي انعدام حركة أحياناً/ بياض يفزع الأفق/ لومٌ يُنحّى/ شرقاً وغرباً/ صنوبر هائل متفكّر/ ورفيف لا يمتثل /كانت حركتك من قبل/ غير أن الهوى بدّلها/ حركة من دون مأوى/ مذنبة في ضيق تنفسها/ هدية عارية في يدي/ ثم إنني مشغولة/ وأنت...لا تلتفت».
تحضر الكثير من مشاهد الحياة اليومية بأعبائها الصغيرة والمطرزة بمزيج من المتعة والحسرة


بين «حركة في أسطورة» و«انعدام حركة أحياناً»، توتر فكرة وصورة تبدو العبارة في استرسالها واقتضابها استئنافاً أو قطعاً لصورة أو مشهد أو إحساس، وضبطاً للإيقاع وهارمونيا بين أصوات قادمة من عوالم ثلاثة كما يعرّفها ألكسندر بلوك: الصوت القادم من «أعماق» الشاعر/ة كالبرق، والصوت المتشكّل في اللغة، والصوت الذي يخلقه الشاعر من أجل ضخّ هذه الهارمونيا في الكائنات الخارجية، كما في «الصنوبر الهائل المتفكر» في الحركة وانعدامها.
الشاعرة التي كانت من أعمدة الملحق الثقافي لجريدة «السفير» اللبنانية وسلّطت الضوء على الكثير من التجارب الشعرية الشابة لبنانياً وعربياً وأسهمت شعراً ونقداً في العديد من الصحف المحلية والعربية، كتبت عن الجسد الأنثوي بلغة مفعمة بالحساسية وبعيدة عن الضدية والقوالب التي تضعه في سرديات ثقافية ودينية واجتماعية كبرى، بل هي كتابة خاصة يصير فيها هذا الجسد أشبه بصندوق سينما ومركز لمشاهد وصور وتجارب وذكريات: «ربما في السينما فقط/ يعزفون على آلة «الهارْب»/ ربما في السينما فقط/ لا تلوح لك امرأة سواي/ هكذا هي السينما/ كل شيء مكتمل/ الرذاذ على سرّتي/ فضّة عمل الأمس/ تصلُ كاملاً كالرعشة/ نهود كثيرة حول سريرك/ وتقول دخّني بعد/ ندم فمكَ المدوّر/ كما لو قبلة ابتلعته/ على حافة البيانو الأبيض/ كأس المارتيني الأصفر/ الرغوة اللامعة/ تدغدغ أنفي/ فخذاي «دولفينان» ورديان/ عالمك البرتقالي خلف الباب/ وجهكَ العريض وعظامك السميكة/ وبشرتك من غير سوء».
إنه الجسد الذي يبتكر «الديكور» الخاص لفرحه وحزنه وللعبة الإيقاع الصعبة مع نفسه ومع الآخر ومع الشعر نفسه، الذي يبتكر أيضاً مسافة «الالتباس البديع»: «الموعد يناسبني/ ويناسبني أيضاً/ أي موعد آخر». ثيمة أخرى عبرت شعر عناية جابر نلتقطها من «لا أخوات لي»، عنوان إحدى مجموعاتها الشعرية، وهي الوحدة، وهي أقرب ما تكون للمعنى الشعري للكلمة، حيث يبحث الشعر عن «ومضة الذهب في نور الطبيعة» على قول رامبو، ويسحب أصغر الأشياء من عالم «الخارج» نحو الجاذب الداخلي، ويطحنه، ويصفّيه، ويشبكه في أعقد شبكاته الداخلية ليصنع منه في هدوء الوحدة «ومضة الذهب». عند عناية جابر تتكلم الوحدة بعفويتها، إنها وحدة تصنع إكسيرها وومضة ذهبها ولا تريد للطارئ والعابر أن يفسد صفاءها ويلطّخ «ساتانها الأبيض»: «لم تعد ذات شأن/ هذه الإسعافات الرقيقة/ لم تعد تؤثّر/ وكأن لا يمكن للإخوة أن يسلّوا بعضهم/ حلّ عني/ كما لو أننا طفلان/ كما لو أن هشاشتنا/ تحتاج أماً واحدة/ ربما لن يأتي أحد/ ربما لا يوجد سواك على هذه الأرض/ مع ذلك أنتظر/ بينما/عن جد، حِلّ عنّي». رحلت عناية جابر بعدما أنهت رسمها بالكلمات والموسيقى بيتاً صغيراً اسمه الشعر يستعد المرء فيه لمناولة وعشاء أخير: «إنني/وقد أنهيت رسماً لبيت صغير/ بسقف مائل وسياج خشبي/ أستعد للعشاء».

ووريت الراحلة الثرى أمس في مسقط رأسها بلدة السلطانية (قضاء بنت جبيل)، وتقبل التعازي عبر منصات التواصل الاجتماعي أو عبر البريد التالي: [email protected]

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا