عندما يتداخل الواقع والحادثة التاريخية مع الفلسفة والدين، في عمل روائي يحاكي في رؤاه ومقصاده الآداب العالمية ليتشابك وفضاء الجريمة مع الشعر والفن، فالأكيد أنه لن يكون عصياً على القراءة فحسب، بل عصياً على الفهم كذلك لأنه في كل مسلك يفتح لك نافذة سؤال بالكاد تحاول الإجابة عنها، لتجد نفسك في مطب أسئلة لا تنتهي، وبرغم أن عمل الروائي السوري باسم سليمان الأحدث «جريمة في مسرح القباني» (دار ميم ــ 2020) لا يتجاوز 150 صفحة، إلا أنه اثبت للقارئ من خلاله أنه يحترمه ويحترم وقته، فالكاتب المتمرس هو في حقيقة الأمر قارئ جيد، إضافة إلى الموهبة. ففي حوار، قال: «أنا قارئ قبل أن أكون كاتباً، وسأظل قارئاً، فالقارئ هو من يهب العمل الحياة».
قدم لمتلقيه رواية عبارة عن وجبة معرفية، تندرج ضمن ما يسمى بالرواية البوليسية،أراد من خلالها أن أن يتعمق في شخصية الفرد الذي عانى من الحروب والشتات وراح في أقاصي الألم يبحث عن ذاته، مكانه ومدينته الأولى: «الحطام ليس إلا روح المدينة عندما تتهدم، وها أنا أبحث في الحطام عن روح البشر وليس عن زبالتهم، لكن عن أي قيامة أتحدث!».
كانت جريمة قتل عبد الله في مسرح القباني في دمشق، المحرك الرئيس للأحداث والحدث الأبرز في إشتعالها، برغم أننا لا ندري إن كانت بالفعل جريمة، إنتحاراً أو موتاً طبيعياً ولربما عن قصد منه، ليفسح المجال للقارئ في منح الرواية النهاية التي شاء من زاوية قراءته.
ترتبط الرواية ارتباطاً وثيقاً بالفلسفة، إذ أنه يجعلك بدل القراءة تشاهد مونولوجاً، فالرواية تقدم فكرة المسرح أو الأضحية التي تجسد فكرة الأضحية الابراهيمية وتحقيق الفداء، فجميع شخوصها بدءاً بالمحقق هم ممثلون يخرجون إلى الخشبة، ليقدموا مونولوجاً يرتبط بالصوت الواعي. ومع التعمق في قراءة الرواية، نلحظ أنهم أصوات وصدى. لذا كان عنوانها الفرعي بالحد والشبهة.
نكتشف في الأخير أن الدمى، هشام المحقق، هشام في المسلسل الإذاعيّ، حارس المسرح، بائع الكتب، المساعد جميل، المحامي هائل يوسفي هم واقع، إذ يقول باسم سليمان على لسان أحد شخوصها إنّ «الحياة الحقيقية هي نسب متوازنة من الواقع والتخيل».
لدينا إذن الواقع والتخييل، ووحدها تلك التقاطعات بينهما هي ما يتحكم بالانسان في حقيقة الأمر، بالتالي المزج بين الخيال والواقع والمسرح، الكلمة، الشعر في الرواية هو ما يمكن أن تستوعبه الرواية كما يقول عبد الفتاح كيليطو «تستوعبها الرواية»، فلا محظور في رواية توظف كل هذا في قالب حكائي لتعالج إرهاصات الإنسان. كما أن الشيء الذي برع فيه هو جمعه لما لا يجمع ليقول مال ا تستوعبه الرواية ولا يمكن أن يستوعبه الواقع.
جعل شخوص عمله يمتلكون نفس السجل اللغوي لأنهم يتشابهون، وهذا ما أرى أنه صورة لتجسيد أبطال مسرحية يقولون ما أمكنهم باللغة التي يريدونها على خشبة المسرح ليعبروا عن الواقع بحرفية عالية وعلى حد تعبيره في الرواية: «أشبه بأحكامي الناس الذين يركنون إلى ظهر الكلمات دون التنبه لمكرها».
ففي هذا العمل بالذات احتفاء بالخيال مع أنه أقرب للواقع من الأدب، لذا فالأدب وإن كانت عوالمه مخيالية، إلا أنه لسان حال الواقع ووحده من يجيب عن التساؤلات التي تتراكم في أذهاننا من دون إيجاد إيجابات شافية. يبدو أن باسم سليمان يحتفي بالموت في الرواية كأنه بالنسبة إليه استمرار للحياة والفن: «الموت هو والد الفن، ولولا محاولة الانسان مواراة سوءة الموت لما وجد الفن». يطرح الروائي العديد من الأسئلة انطلاقاً من النصوص القرآنية وبعض النصوص العالمية ليكتب نصاً عربياً لا يشبه إلا باسم سليمان، تنطلق أحداثه مما يحدث على المستوى العربي والإنساني من إجرام وسفك للدماء وتخريب طال الأرض والبشر.
إحدى أهم الأفكار التي تناولتها الرواية والتي نراها الآن بشكل كبير، هي استخدام الفن من أجل أشياء أخرى برغم صيغته الجمالية، أي أنه غدا مثل السياسة تماماً له أغراض أخرى، لا نستطيع أن نتبين الفن الحقيقي من الفن المزيف، فالفن الآن ليس كما رآه دوستويفسكي «جاء الفن لينقذ العالم». فالفن يتجاوز أنه سيء أو جميل إلى خاصية الصدق.
ترى هل كان رسام الغوطة (سوريا) في الرواية صادقاً حقاً عندما كان ينقل آلام الشعب السوري؟ في حين أنه كان يستغل الضحايا لإنتاج هذا الفن، إذ أنه كان يستخدم النماذج الحية من المخطوفين والقتلة لأجل ذلك، احالنا الروائي إلى ببرزياس الرسام اليوناني الذي استخدم عبداً بالرسم في مقاربة منه لكشف ملابسات الواقع.
في الرواية أيضاً، نرى واقع التحقيق وواقع التخييل فالمحقق هشام يشبه بائع الكتب ويشبه ما كتبه عبد الله اليتيم في أوراقه، إذ أنه كان يبحث عن أم وحبيبة وأخ وهذا ما تقاطع مع تحقيق هشام: «أنا وهو أقرباء بطريقة أو بأخرى، فأنا وهو جمعنا رحم الانفجار».
«جريمة في مسرح القباني» ليست في الحقيقة عملاً بوليسياً كما يبدو انطلاقاً من جريمة القتل والأحداث التي تليها وربطه بين ماضي وحاضرها، بل تتجاوز كل هذا في محاولة من الروائي أن يكتب عملاً لا يمكنك المسك بكل خيوطه وأنت تقرأه كما اعتدت تصفح الجرائد ومواقع التواصل، بل هو عمل كل فقرة فيه هي قراءة لرواية بحد ذاتها.
فالدم من وجهة نظره لم يتوقف ولا الحروب توقفت، بل ازدادت الحياة توحشاً وبشاعة وكل هذه اللانسانية ازادت مع توحش الإنسان.