يعتبر الكاتب والمترجم المغربي، عبد القادر جموسي، أن فلسفة باروخ سبينوزا (1632 ـــ 1677) عبارة عن مشروع معرفي يسعى إلى تقديم قراءة شاملة للوجود.. قراءة تنطلق من إيمان راسخ، بقدرة العقل الإنساني على فهم نظام الطبيعة الشامل. مناسبة هذا التصريح كتاب جديد أصدره جموسي بعنوان «حياة سبينوزا.. من الطائفة إلى الدولة» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر)، مضيفاً أنّ «هذا الطموح المعرفي العقلاني، أثار حول سبينوزا، جدلاً واسعاً دفع بالعديد من قرّائه إلى اتهامه بتعليم الإلحاد، فيما اعتبره آخرون، فيلسوفاً مُنتشياً بحبّ الله».
بورتريه لسبينوزا (1666) بريشة الرسام الهولندي باريند غرات

يقول عبد القادر جموسي في مقدمة الكتاب: «ابتدأت فكرة الكتابة عن سبينوزا منذ سنوات إقامتي في مدينة لاهاي (1995-2001)، حيث اكتشفت هذا الفيلسوف الهولندي الكبير، الذي حوّل مسار الفكر الفلسفي الإنساني برمته، ما جعل فيلسوفاً مثل هيغل يقول عنه إما أن يكون المرء سبينوزياً أو لا يكون فيلسوفاً على الإطلاق. وما ساعدني على الاقتراب من عالم الفلسفة السبينوزية، هو انخراطي في خزانة مدينة ليدن العريقة، التي مكّنتني من الاطلاع على ذخائر من المخطوطات والمراجع من مختلف اللغات. وكنت في كل مرحلة من مراحل اكتشافي لعالم سبينوزا أزداد دهشة وفضولاً لبذل المزيد من الجهد لفهم مقاصده، التي لم تكن تخلو من تعقيد ودقة اعترف بهما حتى المتخصّصون في فلسفته. وتدريجاً، وجدتني أقرأ أعماله الكاملة ورسائله وسير حياته المتاحة، متمحّصاً ومدقّقاً ومقارناً. وكم كانت دهشتي أكبر وأنا أكتشف المفارقات الكبرى والمواقف المتضاربة التي أثارتها حياة هذه الفيلسوف وأفكاره، ما جعله أقرب إلى الأسطورة. ولم أجد بدّاً من التخلي عن فصول كاملة ألفتها عن فلسفته، والتركيز على سيرة حياته في محاولة مني لتقديم، لربما بشكل غير مسبوق في العربية، صورة حية للفيلسوف أتابع فيها أطوار مساره الفكري والفلسفي، في علاقته المتوترة والمتشعّبة مع سيرة حياته الشخصية والعائلية، ومدى تفاعله مع تيار عصره، وتجاذبات المحيط الاجتماعي والثقافي والسياسي لبلده هولندا على وجه الخصوص، وأوروبا بوجه عام. ووفقاً لهذا الاختيار، دأبنا على رسم، بأكبر دقة ممكنة، أهم المحطات التي أثّرت في اختيارات الفيلسوف ومواقفه من حياة الطائفة التي احتضنته فانشقّ عنها، ومن سياسة بلده ومنظومتها الفكرية، التي أسهم في تطويرها، من خلال التنظير الفلسفي والانخراط في حركات المجتمع المدني الطلائعي، والمشاركة في الجدل العام الذي نشطت فيه العديد من الجمعيات المدنية والدينية، التوّاقة للتحرر من رواسب الفكر القروسطي والمدرسي العتيق. وقد عمدنا في كتابة هذه السيرة إلى تحرّي أسلوب جديد في رصد مسار حياة الفيلسوف، أسلوب مقارن وهادئ ينأى عن مجمل الصيغ الإنشائية المتحمّسة، التي قد تمجّد الشخص أو تسعى إلى التشهير به».
في هذا الكتاب، دافع جموسي عن الفيلسوف الهولندي الذي يُعتبر من أهم فلاسفة القرن السابع عشر، قائلاً: «تكاد تكون النقطة التي لا يختلف حولها الدارسون، على مدى تعاقب الأزمنة هي سمة «العمق» و«التعقيد» التي تميّز طروحات سبينوزا، ورؤيته إلى العالم التي لا تزال تثير الأسئلة وتعدد التأويلات. وهي السمة نفسها التي دفعت بأقرب أصدقائه ومحاوريه أثناء حياته، إلى التعبير عن دقة موضوعاته، فكانوا يلحّون عليه لتقديم المزيد من الإيضاحات، لتسليط الضوء على آرائه ونظرياته الفلسفية المستجدة».
محاولة لرسم صورة حية للفيلسوف الهولندي عبر اتباع أطوار مساره الفلسفي في علاقتها مع حياته الشخصية


من جهة ثانية، تحدّث عن أساليب يعود بعضها إلى القراء أنفسهم، لا إلى الفيلسوف، إذ يقول جموسي: «في تقديري الشخصي، فإن الأسباب التي جعلت أعمال هذا الفيلسوف العظيم، تتسم بالغموض وتستعصي على الفهم، تعود إلى اعتبارات عدة نذكر منها على سبيل المثال ما يلي: أولاً: اختياره المنهج الهندسي في عرض أفكاره ومعالجة إشكالاته الفلسفية. ثانياً: انطلاق قرائه من أحكام عقائدية وأيديولوجية مسبقة تعوق إدراكهم لأفكاره في سياقها وأفقها المعرفي الجديد. ثالثاً: اقتصار معاصريه على نصوص محددة، ما جعل قراءتهم تكون مجتزأة لا تلمّ بمبادئ ومقاصد فلسفته في نسقها وشموليتها. رابعاً: اختلاف السياقات التي ارتبطت بها فلسفته، من سياق ديني وإسكولاتي وديكارتي وسياسي».
ويعتبر عبد القادر جموسي، أنّ المسافة النقدية مع مشروع سبينوزا الفلسفي تبدو اليوم، ملائمة لإعطاء فكرة أوضح عن الفيلسوف وحجم إسهامه في تاريخ الفكر الفلسفي الإنساني. و«ما هذه السيرة التي أقدمها بين أيدي القارئ العربي، سوى محاولة لرسم صورة حية للفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا أتتبع فيها أطوار مساره الفلسفي في علاقتها مع حياته الشخصية. ذلك على قاعدة؛ أنّ سيرة حياة أي فيلسوف هي بمثابة مفتاح لولوج عالمه واستقبال أفكاره ونظرياته. ولعل القارئ يتبين من هذه السيرة مصدر نشوء العديد من أفكار سبينوزا من رحم تفاعله وسجالاته، مع رجالات عصره من علماء وفلاسفة أمثال كريستيان هيغنز وروبرت بويل وليبنز».
وتناول الكاتب المغربي، بداية سبينوزا على خط الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت: «ابتدأ سبينوزا مساره الفلسفي ديكارتياً، في وقت كانت فيه الديكارتية هي المعبر الصريح عن الفكر العلمي الصاعد مقابل الفكر المدرسي (الإسكولائي) وتقاليد اللاهوت اليهودي - المسيحي السائدة. وهو ما أكسب ديكارت لقب مؤسس الفلسفة الحديثة من دون منازع».
أما الفيلسوف الإنكليزي برتراند راسل، فقد عزا شرعية إطلاق هذا اللقب على ديكارت، إلى كون هذا الأخير يمثل أول فيلسوف استطاع أن يصوغ عناصر فلسفته على أساس نتائج علم الفيزياء وعلم الفلك الحديثين. ويضيف راسل أن فلسفة ديكارت، ظلت تحتفظ في طياتها برواسب من الجدل المدرسي، وأن الفيلسوف الفرنسي دأب على بناء صرحه الفلسفي على قواعد تفكير جديدة تماماً. وفي فصل بعنوان «ملحق: المنهج التأملي وإصلاح العقل» ضمن الكتاب، يقول المؤلف: «يشكل كتاب «رسالة في إصلاح العقل» سيرة ذاتية فلسفية فاصلة بين مرحلتين من مسار التطور الفكري لسبينوزا: مرحلة ما قبل فلسفية ومرحلة فلسفية». ويتابع: «ينطلق سبينوزا في «إصلاح العقل» بروح إيجابية مدركة لهدفها ومصمّمة على تحقيق الطفرة الوجودية اللازمة، لسنّ حياة جديدة وعلاج النفس من كل شرّ، على أساس أنّ الشرّ ليس من طبيعة رافضة لكل علاج. ثم إنّ تحصيل الفهم الصحيح -بما هو ماهية الفكر- لا يتأتّى إلا عن طريق تطهير العقل وشفائه من كل متعلقات الحياة اليومية. يبتدئ الفيلسوف بحثه من صميم التجربة الشخصية، ليتخذ بعد تأمل عميق موقفه الحاسم من الأوضاع الإنسانية المتقلّبة والفانية، التي لا تورث النفس سوى الإحباط والحزن. وعلى هذا الأساس يستنهض سبينوزا قدراته العقلية الفطرية في سبيل البحث فيما إذا كان يوجد شيء يكون خيراً حقيقياً تزهد النفس فيما عداه ولا تتأثر بسواه بحيث يجعلها اكتشاف هذا الخير وامتلاكه مبتهجة أبداً أعظم ابتهاج» .
ولد سبينوزا في سنة 1632 في مدينة أمستردام الهولندية، وهو من عائلة برتغالية من أصل يهودي، تنتمي إلى طائفة المارنيين. كان والداه يهوديين هاجرا من البرتغال، وفي البداية اضطرا لاعتناق المسيحية. وبعدما وجدا مناخاً متسامحاً في هولندا، عادا إلى اليهودية. كان والده تاجراً ناجحاً في أمستردام، ولكنه متزمت ومتعصّب للدين اليهودي. بالإضافة إلى تجارته، تولى العديد من المناصب الدينية في المجتمع اليهودي هناك، بل شغل العديد من المهام التدريسية المنصبّة على تعاليم التلمود.



المؤلف في سطور


وُلد عبد القادر جموسي، (كاتب ومترجم) في مدينة القنيطرة المغربية عام 1969. حاز الماجستير في اللغة الإنكليزية وآدابها، وعاش في هولندا وبريطانيا وأستراليا واليابان. ألّف في السرد: «عودة جلجاميش» و«كيف نحلم بلندن». وفي الشعر: «ضفيرتان وقصيدة واحدة»، و«أرض الكنغر»، إلى جانب أعمال أخرى من بينها «الشاعر خارج النص» و«حياة سبينوزا»، وثلاثة كتب عن الشاعر والروائي محمد زفزاف. ترجم «كتاب الأمير» لماكيافيلي، و«رباعيات أربع لتوماس إليوت»، ثم «التغريبة العجيبة لكابيثا دي فاكا» لهانييل لونغ.