على هامش مهرجان باريس والحشد الفني الكبير بهدف ضخ المال لمساعدة ضحايا الانفجار الكبير من اللبنانيين وبغض النظر عن التفاصيل ووجهات النظر الفنية المختلفة التي يتحزّب لها اللبنانيون معه او ضده، احب ان اضيء على اجمل ما يعنينا فنياً نحن اللبنانيين، وهو برأيي المتواضع ما قدمه كل من الفنانين عبد الرحمن الباشا الذي قدم معزوفته الاولى التي الفها لاول مرة عندما كان مراهقاً في عمر ١٤ سنه فأعاد تقديمها بوحي المناسبة بصيغة الاغنية: Romance Son parole
والفنان اسامة الرحباني بأغنيته المتألقة «بغنيلك يا وطني بصوت هبة طوجي والتي كان انتجها بفيلهارمونية كييف :
كما أحب ان نضيئ على عمل الفنان Sting بمعزوفته الآسرة على الغيتار بعنوان :
Fragile
ولنبدأ إذن بأغنية الفنان المخضرم اسامة الرحباني والتي اشتهرت عربياً وعالمياً بعنوان بغنيلك يا وطني والتي دمعت عينا الفنانة هبة طوجي عدة مرات وهي تؤديها مختصرة. عن هذه الاغنية العظيمة، احب ان أُؤكد انه لا معنى كبير يُذكر لمرور الزمن امام الروائع التي تعرف كيف تفرض حضورها في الابدية دون ان يتلاشى منها شيئاً .. فالجمال لا عمر له، لأنه يحيا في الذاكرة الجمالية للتاريخ والمستقبل دون ان يستطيع ما في الحاضر من تفاهات تنتشر كالفطر لتملأ وسائل اعلام المرئي والمسموع القادرة بقوة المال والنفط السياسي - الفني الخليجي على التعتيم والتجاهل والهبوط!
ستبقى إذن هذه أغنية استثنائية متفرّدة، مختلفة، وخارجة عن المألوف والسائد، وتنتمي حتماً الى الاغنيات الرحبانية الكبرى التي طبعت عصرنا ووقتنا اللبناني العربي على يد الاخوين («شال» مثلاً او مغناة «راجعون» او «سنرجع يوماً» او «بحبك ما بعرف» او الكثير غيرها التي خرجت عن كونها أغنية مرحله او موضوعاً عابراً لتبقى اغنية شاهقة وعابرة للزمن والمواقف وخالدة في عين الابدية). تنتمي أُغنيتنا هذه الى هذا النمط بفارق المسافة الكبيرة في المكان اللبناني الذاهب الى الموت العربي في ربيع الدعش الاميركي لأحلام الشعوب بالتحرر اولاً، وفارق الزمان المدمن بالحروب (الطبقية المموهة طائفياً) لاسباب لا تخفى على الفنان او المواطن اللبناني الذي راح ضحية لعبة التعمية بين اليمين واليسار اللبناني المزيف ضمن صيغة التطويف المسلم المسيحي الدرزي لدرجه التفتيت المذهبي للطائفة الواحدة. حيث تشرق وسط هذه التفاصيل المعقدة ملابسات الاجابات المتعددة على سؤال الفن بثراء الرؤية الفنية المكثّفة في دقائقها المعدودة في الزمن الموسيقي، وتنتمي أغنيتنا هذه الى ما يعرف بالفرنسية اليوم باسم chanson a texte التي لا يستوي مقاربتها بغيرها الا بما تتضمنه ببنائها وطبيعتها الدرامية بآفاق رحبانيه خاصه متفرده قد لا تتحمله اغنيات أخرى كثيره نتداولها اليوم لانها تفتقد لمبررات التوازي معها في الجوهر والدافع والبناء والطابع الذي يجمع ليتوحّد كل اللبنانيين حوله من خلال الاسس الوطنية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية التي، ربما واقول ربما تحملها، لنفهم المغزى من الرسالة الفنيه التي تبثّها هذه الاغنيه بين طياتها الى المتلقّي سواء الناقد او الذائقة بتنوعها، ولكي أكون منصفاً في الحكم عليها يجب ان يبدأ سماع الاغنية موسيقياً وتحليلياً من النهاية، اي من الدقيقة 5,53 لنصل الى الدقيقة 6,30 أي ما يستغرق حوالي الـ٣٧ ثانيه الاخيره التي عزف خلالها الفنان اسامة الرحباني جوهر لحنه (موتيف) على آلة البيانو عارياً من اي توزيع واركسه او زينة آلاتية بوليفونية. فقط عَرَضَه اسامة موزعاً بين جملة مفتاح «الصول» وجملة مفتاح ألـ «فا» لسكور البيانو. اعتقد ان في هذه النصف دقيقة يقطن كل السر الموسيقي الرحباني في الدخول عبر الباب الاول من الأبواب المتعدده التي يمكن الولوج عبرها لفهم وتحليل هذه الاغنية العظيمة! لماذا؟ لانه عبره يبرز بوضوح عرض عصب هذا اللحن ووسع طاقاته المفتوحة على فن الاوركستراسيون وتعدد التركيبات اللحنية بتوزيعه على اساس المودال اولاً، وعَصَبِه الموسيقي الواسع الذي يحتمله ببنائه الموسيقي الدرامي الذي يفتحه على أفق البوليفونيا والهارموني والكونتربوان ليلامس امتداداته الموسيقيه على آفاق البوليموداليتي والبوليريتميك المختمر في نسيج نَصِّهِ البوليفوني الغني والعميق، هذا خامساً... مما يسمح له بإبراز مفاتنه وتشعباته الجماليه وعرض قدرات الموهبة الكلاسيكية الكبيرة المختبئة في رحابه قدرة الفنان اسامة وهو يتعامل بمسؤولية وثراء وموهبة واقتدار يعالج به توزيع نسيجه البوليفوني ضمن الامكانيات الكبيرة والواسعة للفيلهارمونية السيمفونيه الاوكرانية لاوركسترا مدينة كييف التي نفذت العمل. اعتقد انه بعد سماع اللحن عارياً يمكن للمتلقي او الناقد ان يعود لبداية الاغنية التي تبدأ السرد الموسيقي بشكل مقتصد وعلى بناء درامي تصاعدي يقحمنا فوراً ليضعنا بلا مقدمات او حشو وبلا اي ثرثره ولو لنوته واحده فيها خارجه عن اللزوم لتضعنا الاغنيه مكتمله في أجواء المكان اللبناني والزمان العربي والعالمي الملوث بكثير من البشاعة العالمية في زمن الفقر والكورونا وانفجار القبح في لبنان الفساد والافساد واللذان تتداولهما هذه الدراما في نصّها المركب موسيقياً على القصيدة الشعرية للفنان غدي الرحباني الذي لشفافيته تدمع العين لدقة وصف حالنا كبلد وشعب وصل بانحداره الجمعي الى الحضيض. من هنا بالذات ومن مكان اخضر صغير يشبه الواحة، وتحديداً من خليج جونيه احد اجمل خلجان حريصا حيث تقف السيدة مريم العذراء كأنها تحرسه منا ومن قبح وصلف رجال الدين (وهي ايضاً سيدة نساء العالمين - قرآنياً ) لتقف العذراء شاهدة على إجرام تحالف الحكام السياسيين ورجال الدين الطائفيين وهم يسوقون الشعب والرعية وكل عناصر البيئة في الارض والبحر والجبال والسهول والأنهار والصحه الى شفير الهاوية البيئية والسياسية لنحرها وذبحنا على مسلخ جشع مصالحهم التي لم تعد تعرف الحدود والشبع .. تقول الاغنيه من بين ما تقول «مِيِّة سنة تشتي الدني ما بتمحي يلي عملتوه...» قد لا يختصر روح الاغنية لا الشعر ولا لحنها العريض الواسع المفتوحان بثراء على ديابازون السلالم الموسيقية للنفخ (بيكولو - توبه) وعلى ديابازون الوتريات موزعه على طبقات آلاتها الوترية (فيولون فيولا تشيلو كونترباص) ثانياً، ولا حتى بقية عناصر نسيجها البوليفوني الموزع اوركسترالياً بعنايه على ارقى فنون التنويع على التيمه والموديلسيون وتركيباته الائتلافاتية والهارمونية المميزة ببلاغة الهارموني مودال الذي اسس له عاصي ومنصور حتى غدا يُحسَب استعماله بهذه الحكمة والثراء عليهما .. والذي يسعى اسامة هنا جاهداً ليتوازى مع الهوية الشرق عربية لطبيعة هذا النسيج الممتلئ ببلاغة النضج والعمق الذي يميز روح التأليف المكثف خلال مساحه هذه الاغنية الحافلة بهّم التأليف الموسيقي الذي يفوق بنضجه مدتها الزمنيه وهو يخاطب الوعي ويحتفل بأَنْسَنَتِهِ فنياً وفكرياً . يُحسب هذا بالقَدَر الذي يتسع به قالب هذه الاغنية فيقطف ما يحمله من اشراق رحباني يضيف لماضيه. قد لا يستطيع هذا الصوت الجميل المميز لهبة طوجي الذي يمتد رحباً على السلم الموسيقي من الدو بيكار الى «سي بيمول» والذي اثبت أنّه تخمّر بنضج آفاقه الواعدة بقدرات التغييرات بسرعة الديناميكس التي تلبيها على انترفالات سلالم طبقات السوبرانو كوليراتورا. لا يمكن لأحد هذه العناصر كلها وحيداً بان يختزل الاغنية دون غيره. انها اذن اغنية لقاء عناصر وروافد من فئة الاغنيات الاستثنائية الكبرى التي وسمت عصر الاغنية اللبنانية العظيمة على يد عاصي ومنصور. اغنية عادت لتقف بيد اسامة الموسيقية وشعر غدي وصوت هبة على ارض صلبة تذكرنا بمجدنا القديم وتقول اننا إن اتحدنا وخرجنا من طوائفنا وتفتتنا وتمذهبنا وخنوعنا للرعيان والحكام السياسيين الطائفيين... فإنه باستطاعتنا اجتراح المعجزات. علينا فقط ان نقرر ونفكر وننهض، وربما دون ان ننظر الى الخلف الا لنرى عجزنا وموتنا فنبتكر من اشلائهما وطننا الجديد الخارج من فساد التطويف وتقسيم البشر باديانهم، فهل ننهض؟! اما عن عمل الفنان الكبير والمخضرم عالمياً على الته وفنِّه العازف (الذي لا يعرف كثيرون انه دخل بقوة على باب التأليف الموسيقي على البيانو منذ حوالي ٤ او ٥ سنوات بتسجيل اول سي دي له ضمّ ٣٢ معروفه متنوعه كان لها صدى ايجابي رائع هنا في بلجيكا حيث تمت استضافته لعزفها في حفل خاص في اهم قاعة كونسرت للبيانو في بروكسل ونفذت طبعاته كلها في الحفل وانتظر الجمهور بعد الحفل بمنظر سوريالي وهو يقف في طابور امتد لساعات من المسرع صعوداً للباب الخارحي للقاعه لشراء العمل وكتاب السكور الموسيقي لمقطوعاته. جلس الباشا لساعات يمضي اصداره (كاتب هذه السطور بِقي يشهد هذه الواقعه حتى نهايتها ) المهم قدم الباشا معزوفته القديمه الجديده على مسرح الاولمبيا التي ارتأى انها ببساطتها تليق بالجمهور الشبابي الواسع الذي لم يقصد حفلاً متعمقاً بالتأليف الكلاسيكي بقدر ما اراد ميلودي ساحر مع هارموني سلس بسيط يتناسب مع أجوائه التضامنية فأعاد الباشا تلك المعزوفة موزعة بين البيانو وتشيلو العازفة اللبنانية أستريخ سيرانوسيان
Astrig Siranossian على مقام الـ Sol Major الصول ماجور والموقّعه على نبض ايقاع سته على اربعه ٦/٤ .
ورغم ان الباشا قد لا ينتمي فنياً الى هكذا نوع من الاحتفالات لكنه كلبناني صميم جاء ليقول انسانيته بكوزموبوليتانية فنية عرفت كيف تلقي وتفرض بسحرها ورونقها وتترك احترامها وسرها الموسيقي كعبير زهرة الغواية التي تعطي رحيقها للريح وتترك للذائقه أن تجد فيه ايقاعها الروحي ومقامها الخاص الذي تحتفل به كل نفس بسرها و توقها بتفاعل يحدث فينا مُأسلباً بين العام والخاص. ترك عبد الرحمن سرّه وسار الحفل الذي ختمه الفنان Sting بصوته وجينات شخصيته على اجمل ما يكون عليه مفهوم التضامن! انا كاتب هذه السطور لا انتمي الى الثقافه الفرنكوفونية واحيا في بلحيكا ولا يهمني اختلاف الاذواق والاراء المبتور والمقسوم الذي يجري في لبنان. احببت أن أضيء بطريقتي ومشاعري الخاصة على اكثر ما مسّني وأثّر في داخل اعماقي ليجيب عن دور الفن في معركة الحياة ضد القبح والجهل والظلام الذي سبب لنا هذه الكوارث وتلك الانقسامات المريعة والمخيفة التي تجري في لبنان!.