تونس | «أنا أحلم دونكيشوتيّاً بالثورة بما هي إبداع للمعنى والقيمة... بعيداً عن واقع بائس بأحزابه وجبهاته ومنظّماته وأبواقه... تلك التي لم ترتق حتّى إلى مستوى طواحين الهواء...إنّها ماكينات فراغ وخرفان اجترار القديم وإعادة إنتاجه وتسويقه» (كمال الزغباني) بين الحامّة في الجنوب التونسي والعاصمة مروراً بصفاقس والمهدية ومدن تونسية أخرى، امتدّت المغامرة الحياتية لكمال الزغباني (1965 ــــ 2020). مغامرة ثريّة يعكسها الإنتاج الأدبي والفكري المنشور (2) الفقير نسبيّاً كما والثريّ والمبدع محتوى ومضموناً. «الآخر» مجموعة قصصيّة، روايتان هما «في انتظار الحياة» (جائزة الكومار الذهبي 2002 ، أعيد نشرها عن «دار مسكيلياني») و«مكينة السّعادة» (2016 ــ «دار التنوير» التي حازت «جائزة البشير خريف للإبداع الأدبي» في الرواية سنة 2017). وهناك كتابه «أخلاط في البهيموقراطية والثورة» الذي جمع فيه بعضاً من نصوصه المكتوبة قبل رحيل بن علي وأخرى كُتبت تفاعلاً مع تطوّرات المسار السياسي في تونس بعد بن علي، إضافة إلى العديد من النصوص المتناثرة وعشرات المداخلات والمحاضرات غير المنشورة في العديد من الندوات الثقافية التي أثّثها عبر طول البلاد وعرضها.
كتاباته الحرّة والثريّة والساخرة لم تقلّل من حياته المُمارسة ثراءً و«مضياً للأقصى في فنّ العيش». حياته كانت في تواصل مع تفكيره وكتابته، فقد كان «يعيش كما يفكّر ويفكّر كما يعيش». كتب عن فنّ «التّذَاوُت العِشروي» في تقديمه للكتاب عن عشيره «سنان العزّابي الذي هو في نظره أُسّ للمقاومة وقادح أساسيّ لها: مقاومة لشتّى أشكال الحزن والنّكد والخسّة، وخصوصاً للحماقة ومشتقّاتها».
في كتابه النّقدي «أخلاط في البهيموقراطية والثورة»، قارب كمال حقبة بن علي من زاوية أخرى غير مطروقة عموماً. ولتوصيف حقبة بن علي، ابتكر لفظ «البهيموقراطيّة» التي رأى أنّها تصلح لتوصيف شكل الحكم في حقبة بن علي خصوصاً، وكلّ أشكال الحكم التي سادت المنطقة العربية عموماً إثر موجات التحرر الوطني في الخمسينيات والستينيات. بل قرّر أنّها سِمة التاريخ المعاصر بكلّ عوالمه ومجتمعاته، المتقدّم منها و المُتخلّف. و«البهيموقراطيّة» كما عرّفها في تقديمه للكتاب «هي ذلك النّوع من الحكم السّياسي الذي يجعل من الحمق والغباء والتبلّد الذهني والعاطفي قاعدة عامّة ونظام وجود يقع زرعه في عقول الجموع ومخيلاتهم على نحو نسقي يتمّ من أجله تجييش كلّ الآليّات التبهيميّة الممكنة. وهو أمر يجعل من الذكاء ومن الفعل ومن فنّ الحياة المبدع أشياء نادرة واستثنائيّة هي إلى الشذوذ أقرب إن لم تكن ضروباً غير معهودة من البلاهة والجنون». على أنّه دعا إلى التفريق بين «البهامة» و«الحماقة» من جهة، وبين البلاهة من جهة أُخرى وإلى التفريق بين «الأحمق» والغبيّ من جهة، وبين الساذج و«الكانديد» ضارباً لنا مثلاً شخصيّة «دون كيشوت» و«الأمير مشكين» وجاك القدري وهي ليست شخصيات حمقاء، لكنّها «جحائيّة» تجمع على نحو مفارق بين أقصى الحكمة و أقصى الجنون و«تفتح أعيننا على أبعاد في الكينونة لا ترقى إليها العين الوسطيّة المنغمسة في اليومي والمتداول».
وعبر نصوص الكتاب الممتعة، مارس الكاتب متعته في التنقل بين الأجناس و النبرات، حيث ذلك المرور السّلس من السّرد إلى الكتابة السياسية المباشرة إلى الفلسفة، ومن الهزل إلى الجدّ، ممارساً ولعه في كسر الحدود بينها ومانحاً إيّاها بصمة خاصّة وثراء فريداً، حيث استهلّه بتشريح فكرة البهيموقراطيّة ومقوّماتها ومظاهرها. من ثمّ عرّج على فنّ الكتابة والسينما والجدل بين الحبّ والإبداع والثورة من خلال نصّه البديع عن الرسّامة المكسيكية فريدا كاهلو، من دون أن يبخل علينا بالتحليل والسرد في تحليل آليات هيمنة وسيطرة رأس المال وثقافته الغبيّة عبر الإعلان والتنميط والنّمذجة.
وفي روايته الأخيرة، التي وُلدت من تأمّله في فكرة «وھم السعادة» الذي تسعى الديكتاتوریة عبر مختلف أدواتها وأجهزتها الى إقناع الناس بها والتي يراها آلیة قمعیة عالیة تدجّن بها الأشخاص وتمنعھم من التفكیر الذاتي ومن التطلع إلى التحرر وتحقیق الذات، عاد عبر شخصيات روايته وأحداثها إلى السخرية من مظاهر الغباء واللؤم في المجتمع التونسي المعاصر، وحاول رسم صورة بانورامية لبلد رزح تحت ديكتاتورية مقيتة لعقود طويلة. كل ذلك من خلال الأحداث التي تراوح من الثمانينيات من القرن الماضي إلى أوائل الألفين ومن واحات قابس إلى حانات العاصمة وشوارعها.
سياسيّاً كانت شخصيّته تواصلاً لما يفكّر به ويكتبه. فكمال الشاب الذي يُدرّس الفلسفة ويحبّ الأدب ويكتبه لا يختلف عن كمال الكهل الذي فارقنا ولم تحوّله الشهرة النسبيّة ولا النجاح الأدبي (في بلد لا يحبّ الأدب أصلاً) إلى متزلّف للسّلطة أبداً. واصل عبر جسده مباشرة أو عبر قلمه ممارسة قناعاته وتقريضه للحرية في مواجهة الغباء و«تنّين» السّلطة، وعبر مراحل كثيرة من حياته منذ الزمن الطالبي حيث رفض تكريماً رسمياً له على تفوّقه، إلى آخر شبابه حيث أسّس برفقة سليم دولة وجلّول عزونة وآخرين «رابطة الكتّاب الأحرار» جسماً موازياً لاتحاد الكتاب التونسيين الذي كان يسمّيه «اتحاد الكذّابين» بعدما غرق في مداهنة السلطة والتذلل لها، خاصة عبر رسالة المناشدة التي أرسلها الاتحاد عبر رئيسه وأمضى عليها كلّ أعضائه في بدايات هذه الألفية. حتى في كهولته، لم ينخرط في صلب أي حزب سياسي لا زهداً، لكن لِقصور يراه في العمل الحزبي، وقد واصل التصريح بمواقفه علناً في زمن «الترويكا الحاكمة». كلّفه ذلك اعتداء جسديّاً بلطجيّاً من «ميليشيات» الحزب الحاكم عندها. كما أنّ زهده وتعفّفه الريفي الجنوبي الذي حمله معه من الحامّة، لم يضع في دروب الجامعة ومتاهاتها، إذ حرص على التمايز عن التيار الأكاديمي (المعروف بعلاقاته وتعاونه مع أطراف صهيونيّة أو قريبة من الصهاينة والمتصهينين في فرنسا خصوصاً)، معبّراً مباشرة عن قرفه من نذالتهم وتذلّلهم لأطراف لا تخفى على أحد قذارتها، كما دوّن عند حضور المتصهين التونسي الفرنسي ميشال بو جناح.
وكمال الذي عرف قيس سعيّد عن قرب لزمن قصير والمُقاطع للانتخابات دوماً، دعا التونسيين في تدوينة صغيرة «أن انتخبوا قيس سعيّد»، محتفظاً لنفسه بمسافة نقديّة منه عند وصوله إلى السلطة. كما لم يبخل عليه بالنقد ولم يُعفه من الكتابة الساخرة أيضاً كما في نصّه العبقريّ «حديث الدُّحية».
واصل عبر جسده مباشرة أو عبر قلمه ممارسة قناعاته في مواجهة الغباء و«تنّين» السّلطة


ورغم أنّه رفض الانخراط في أيّ حزب سياسي رغم تقارب الرؤى و الأفكار معها ورغم أنّ أغلب أصدقائه وعلى رأسهم الشهيد شكري بلعيد وصديقه سنان العزّابي كانوا منخرطين كلياً في العمل الحزبي المباشر، إلا أنّ موقفه لم يكن موقف المتفرّج البائس، فلا يمكن نسيان رسالته المفتوحة لسفير فرنسا في تونس لتغيير مقرّ سفارة فرنسا المقابلة لتمثال ابن خلدون في الشارع الرئيس في العاصمة إلى منطقة أخرى، خاصّة مشاركته في عام 2016 كمنُسّق لمشروع «الجامعة الشّعبية محمّد علي الحامّي» التي كان من أوائل مؤسّسيها وكاتب بيان تأسيسها المنشور على موقع «نواة». هذا المشروع ولّدته الحاجة حسب الكاتب إلى المضيّ بالمسار الثوري إلى أقصى ممكناته ـــ التي عجز العمل الحزبي عن تلبيتها ـــ ولا تكون إلّا بفعل نضالي أفقي وموضعي قائم على التقاسم والقرب من أجل الإنصات المنتبه لتمكين العدد الأقصى الممكن من القطاعات المهمّشة من أدوات فهم وتحليل وفعل في واقعها الخاصّ والعامّ على حدّ سواء. سعى المؤسّسون في هذا المشروع كما ورد في البيان التأسيسي لتحويل الفعل التعليمي من اعتباره فعل هيمنة على الأجساد والعقول من خلال إحداثيات سلطوية ظاهرة أو خفية (معمارية، زمانية، برامجية…) إلى تبادل معرفيّ تفاعليّ حرّ من شأنه توفير ممكنات البناء المستقلّ للذات والمساهمة الموجبة في الوسط المهني والاجتماعي.
إجمالاً، كانت حياة صاحب «زغبانيا» (3) وهي عمله الفنّي الطبيعي الذي لم يُكتب، في انسجام تامّ مع أفكاره ورؤيته إلى الحياة والأدب. كتلة واحدة بذواتات عديدة ووجوه مختلفة... سيرة وفيّة للإبداع والذكاء وضدّ الابتذال و السخف، صوراً من المقاومة المبدعة كما كتب عنها وحرّض عليها ومارسها في كلّ مراحل حياته. كانت صورة عمّا كتبه بنفسه عن دون كيشوت «وإذا ما حوّلناه في «الهنا والآن»، فإنّا سنراه يقاوم سلطة الناسوت واللاهوت معاً ويحارب خصوصاً تلك «الدابّة» ذات الألف وجه وصورة: «البهامة» بشتّى تجلّياتها السياسيّة والإعلامية والثقافية والدينية... عساه يمنح ذاته والعالم معانيَ وقيماً جديدة، وعساه يحصّنها خصوصاً ضدّ شتّى أشكال الاستعادة والتدجين التي لا تنفكّ تتسرّب إليها من كلّ الجهات...»

هوامش
1 ـــ المثقّف البرّي لفظ مستعار من الأستاذ مصطفى العلوي كتبه في تأبينه لكمال الزغباني.
2 ـــ كتب كمال تدوينات كثيرة تصلح أن تكون نواة لمقالات ودراسات عديدة لعلّه بدأها لكنّ العمر لم يسعفه لإخراجها في صورتها النهائية ونشرها. كما قدّم محاضرات كثيرة في العديد من التظاهرات الثقافيّة المحلّية، وقد ظلّت نصوصها مبعثرة، وكلّ ما أرجوه ممّن قد توكل لهم مهمة حفظ ميراثه، هي جمع كلّ هذه المداخلات، وإخراجها كما يليق بصاحبها، إضافة إلى العديد من المشاريع التي كان يعمل عليها منذ سنوات وصرّح بها، كعمل عن الإبداع والمقاومة، في الأدب والفلسفة والسينما وعمل روائي أرسل مخطوطه الأولي إلى بعض أصدقائه.
3 زغبانيا هي الأرض الصغيرة التي كانت مهملة بجانب مقر إقامته وقد حوّلها إلى حديقة جميلة، أطلق عليها اسم زغبانيا أو جمهورية زغبانيا المجاورة للجمهورية التونسية.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا