من قلبي سلام إلى بيروت... أشكرك أيتها المدينة التي احتضنتني في طفولتي وأعطتني الروح والذاكرة ... ما زلت حتى اليوم كلما مشيت في شوارعك أستعيد ذلك الطفل الحالم على كورنيش الروشة وهدير بحرك المتمرد الذي أعطاني أفقاً للحلم وللكبرياء... وكان ملاذي كلما اشتدت وطأة القصف ووطأة الموت.... وأنت كأيّ مدينة عربية يُستهدف فيها الحلم وتُستهدف فيها الحياة... أشكرك أيتها المدينة التي أعطتني من روحها.شارع الحمرا... سينما فرساي... نزلة البيكادللي... صورة فيروز على باب مسرح البيكادللي في إعلان مسرحية «ميس الريم» شامخة كجبال صنين... زياد الرحباني في مسرحية «بالنسبة لبكرا شو» في بلد لا أحد كان يعلم بالنسبة إلى يومه «شو».
قصف عشوائي وموت مجاني وكتائب لبنانية وقوات ردع عربية ونيران أعداء ونيران أصدقاء... وأناس يُقتلون على الهوية... وطفل يلهو ولا يدرك معنى الحرب...
ووسط هذا الموت اليومي، إصرار يومي أيضاً على الحياة، الحياة التي كانت تشق طريقها رغم الموت...

لوحة للتشكيلي اللبناني حسن جوني

أذكر برنامج زياد الرحباني مع جوزيف صقر الذي كان يأتينا على الإذاعة بعنوان «بعدنا طيبين... قولوا الله». ما زلت أذكر كيف كنا ننتظر هذا البرنامج يومياً لنسمعه على ضوء الشموع بسبب الانقطاع اليومي للكهرباء، وفي زوايا آمنة من البيت وسط قصف يومي لا ينقطع. كذلك برنامج شريف الأخوي على الإذاعة «آمنة وسالكة» عن الحالة الأمنية للطرق التي كان من المستحيل الخروج من المنزل قبل سماع النشرة الأمنية! ومن عاش الحرب الأهلية في لبنان، يعرف تماماً عمّ أتحدث؟، والمياه التي كنا نحملها بأيدينا ونصعد بها إلى طوابق عديدة لأن المياه أيضاً كانت دائمة الانقطاع في الحرب.
وكما كنا نعيش ونسمع عن حكايات القبح اليومي وقنّاصة الموت، كنا نحن كذلك نحاول أن نقتنص الحياة. وقد استطعنا أن نقتنص لحظات جميلة للحياة، و«سنبقى رفيقين دوماً» كما قال مارسيل خليفة الذي كان في تلك الأيام وما زال عنواناً لثقافة الحب والمقاومة، أحمد قعبور وخالد الهبر...
أشكرك أيتها المدينة التي أعطتني ذاكرة حميمة تسكنني حتى اليوم. تلك الذاكرة التي نفتقدها في مدن أخرى تتناسخ فيها الأيام وتستنسخ بلا نبض ولا روح.
ولا أستطيع أن أتحدث عن طفولتي في بيروت من دون أن أذكر مدرستي في فردان التي كان يديرها الأستاذ قيصر حداد شقيق الدكتور وديع حداد، رمز وعنوان وعنفوان فلسطين وقضيتها... قيصر حداد الذي كان قدوة ومثالاً ونموذجاً في الجدية والتفاني في العمل...
لا أستطيع أن أتحدث عن طفولتي في بيروت من دون أن أذكر أستاذي اللبناني القدير، أستاذ اللغة العربية محمد كعكاتي الذي ترك بصمة عميقة جداً في تكويني الثقافي. أستاذي هذا الذي علمني الإيمان بالقومية العربية منذ الطفولة، أستاذي اللبناني الذي جعلنا نحفظ أشعار توفيق زياد عن ظهر قلب «هنا على صدوركم باقون كالجدار...». أوجه إليك التحية اليوم وبعد كل هذه السنوات أينما كنت أيها الأستاذ القدير الذي كان يؤكد لنا دائماً أنه ما أتى ليعلمنا قواعد اللغة العربية فقط والتي نستطيع أن نجدها في الكتب في أي وقت، إنما جاء ليعلمنا ما هو أكبر من ذلك وهو روح الانتماء...وأساتذة كثيرون في مدرستي تركوا بصماتهم ولم يكونوا عابرين...
أشكرك بيروت أيتها المدينة الحبيبة والحميمة التي علمتني ثقافة الارتقاء فوق القبح وثقافة التعالي على الجراح وباختصار ثقافة الحياة ....

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا