بعيداً عن اتهامات المفعول به للفاعل، وتبعثر الفاعل أشلاءً في الهواء تماماً مثلما حلّ بالمفعول بهم أو المفقودين حتى الساعة، فلا فاعل أبداً وإنما زمرةٌ من أيادٍ سود تحملقُ في وجه السماء، بحثاً عن الفاعل. بين ليلةٍ وضحاها، تحوّلت كلمة «شهيد» إلى شمّاعة محكمة يرمي الفاعلُ عليها ستراتِ مهمّاتِه القذرة، فلا الأمّهاتُ بتنَ قادراتٍ على أن يصدّقنَ هذا المفهوم ولا عادَت الكلمة تعزّي المنتحبينَ على شباب أحبتِهم المهدور. وما بين الفاعل والمفعول به، ثمةَ مصدرٌ ضخمٌ يحرّكُ خيوطَ اللعبة من خارجها. ضخمٌ إلى حدٍّ يجعلُه غيرَ مرئيٍّ كالغولِ بالنسبة إلى كائناتٍ مجهرية، مثلَ ربٍّ يستشعرُ العبيدُ سخطَه، لكنهم لا يرونَه. بعيداً عن سلطة الإعراب وقواعد اللعبة، كان المشهدُ ذلك الصباح إنسانياً. أغضبَني أنّ السائقَ مرّ على راكبٍ آخر ليوصلَه إلى سنّ الفيل قبلَ أن يوصلَني، فوصلتُ متأخرةً إلى عملي نصفَ ساعة. نصفُ ساعةٍ فقط. نصفُ ساعةٍ كانت تكفي لينتقلَ كلُّ ما رأيتُه على مدى الأيام القليلة الفائتة، من عيني المتلقية إلى عقلي وقلبي، إلى يديَّ وإلى جسدي الذي تفاعلَ مع الحدث، ففقدَ لوهلةٍ أحاسيسَه المادية. نصفُ ساعةٍ كنتُ فيها كلَّ صحافيّي العالم. كانت عينايَ كلَّ كاميرات الصحافة وعدساتِ الإعلام. كنتُ في نصفِ ساعةٍ، كلَّ المشاهدين الماكثين خلف الشاشات. رأيتُ المشهدَ والتاكسي يسيرُ باتجاه المنطقة المنكوبة. يقتربُ أكثر وأكثر، ليزداد عددُ المباني الممزّقة وتتحولَ النوافذُ إلى أبواب مفتوحة وغرف المنازل إلى أروقة تجوبُ خلالَها الريحُ والطيورُ... وربما الأرواح.
نصفُ ساعةٍ كانت كافية. كنتُ بعيدةً عن المكانِ عشرَ دقائق، لكنّي من هناك بدأتُ ألاحظُ الدمار. لم أقل شيئاً في نفسي. دائرةُ النكبةِ- أو قُطرُها- كانت تحكم اللحظة بهيبتِها. ابتعلتُ غضبي من السائق، لكنّ عقدةً حلّت في حنجرتي، فلم أميّز إذا ما كانت أعراض الكورونا أم غصّة ألم. تبّاً لكورونا وللمنجمين ولكل المحطات والقنوات الإعلامية. تباً لكلّ العدسات. ليس ثمة عدسةٌ أوفت المشهدَ حقَّه! في نصفِ ساعة، غيّرتُ ديني ثلاث مرات، بتبدُّلِ المشاهد؛ سبعينيٌّ في منطقة الجمّيزة يبحثُ عن سروالِه بين الركام على مرأى من المارة والسيارات بعدما انهار جدارُ بيته بالكامل. امرأةٌ في زقاق البلاط، تنظرُ بيأسٍ إلى أرضيةِ منزلها والعاملة الأجنبية تحاولُ لملمةَ بعضٍ من ذكريات المرأة بالمكنسة. وسط البلد مشرفٌ على الصورة، يمسكُ بذاكرةِ المدينة، وينتحب بنوافذه وشوارعه وأزقته. مبنى البيضة الصامد المسكين، والتياترو الكبير وذاكرةُ بيروت المهمَلة، زادت الصورةَ تراجيديا سريالية!
على بُعدِ أمتارٍ من حيثُ عبرنا، كان جسدُ بيروتَ العتيق، المُلقى في الطابق السفليّ من أرض المدينة، بعدما نزعتهُ بيروت عنها لأنّ جراحَه كانت عصيةً على التقطيب. تمرُّ فلا تعرفُ متى حصلَ كل هذا، فهنا تماهت الحروب وتزاوجَت التواريخ، فصارَ النسيانُ ملحّاً لمن أرادَ النجاة.
اقتربنا وكلما دنونا أكثرَ من المرفأ، ازدادت رائحةُ الموت في الجوار، وملامحُ مبعثرة لصورةٍ لا منطقَ في مكوّناتِها. فكيف استقرَّ قاربٌ على متنِ جسرٍ؟ وكيف سقطت شجرةٌ في غرفةِ جلوسِ هذا البيت؟ وكيف انقلبت سيارةٌ فوق صناديق البضائع؟ وما الذي جعلَ القمحَ يغطي كلّ تلك الأجساد؟ وما الذي جعلَ الركامَ يملأُ أفواهَ الفقراء الذين لم يكن انتظارُهم بعد يومٍ طويلٍ من العمل الشاق، إلا رغيفاً للعيال؟ تذكّرتُ لوحة حسن جوني لبيروت ما بعد الانفجار، كان المشهدُ يشبه كثيراً اللوحة. بيوتُ بيروت الحجرية الجميلة بشرفاتها العتيقة، لم تعد تقوى على مقاومة الدمار، فاستسلمت للفناء أخيراً، بعدما كانت تشبّثت بالحياة آلاف المرات.
نصفُ ساعةٍ كانت تكفي، لأرى أنّ بيروت لم يصل إليها سلامي ولا سلامُ العالمِ كلّه. بيروت ليست بخير. أكثر من كلّ المرات ليست بخير. وما زال وجومُ الفاعلِ حاكماً في سماء المدينة، وما زالت الأم كا تحلّقُ بكثافةٍ ووقاحة. وما زال الغولُ الكبيرُ غير مرئيٍّ للناس، يتلاعبُ بالخيوطِ والطائراتِ والرؤساءِ متلاعباً، من دون أن يعرفه أحد، فالناس منشغلونَ بتقاذف الشتائم ورمي غضبهم في قلوب بعضهم البعض!

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا