منذ أن عرفت طريقي إلى قصائد أمل دنقل، لم أستطع فهم ما الذي يربطني بهذا الرجل على وجه التحديد. كان الثقل الدرامي الذي أشعر به في روحي كلما مرت سيرته أو أبياته يربكني. وأنشغل بكيفية السيطرة على دموعي إذا ما حدث ذلك في موقف يجمعني بآخرين، كجزء من التدرب على تحييد المشاعر. استمرت محاولاتي للفهم، كما استمر هذا الثقل في المرور إلى نفسي كمرساة سفينة تشق الماء نحو القاع في ألفة تامة. تلك الألفة التي بدأت شفراتها تنفك وأنا أتداوى من وجع غياب أبي بتأمل صوره وحياته. نعم، هذا الرجل يشبه أبي، بعينيه الطيبتين، وأنفه الذي يحتل مساحة واضحة في وجهه، وشاربه الخفيف، وشفاهه الأفريقية، التي ورثتها عنه مع الشعر المجعد. هذا الوجه المصري ذو العظام البارزة، بجبهة رحبة وجفنين منسدلين يخبئان تحتهما نظرة ثاقبة، لن تدعك تمر دون أن تمنحك دفقة من الحنان الخجول.
أبي أحبّ الأرض ومنح روحه للنخيل يوماً بعد يوم، وأمل صرخ دفاعاً عنها ولعن التصالح حين صمت الجميع

ولكن حذارِ من أن تعبث معها، لأنك ستجد نفسك أمام مخلوق آخر عنيف، متطرف في مواقفه إلى أقصى حد، لدرجة أنه ربما يفني نفسه فداءً لك أو يفنيك فداء لكرامته. هكذا يكون الجنوبي. وها أنا أفهم الآن لماذا يقولون إنني صدامية، وكيف لا أكون وقد أورثوني حناناً خجولاً؟! والتركة تصبح أثقل حين يصاحب الحنان الخجول قصائد حرة إلى حدّ البكاء، لهذا فإنني الآن أفهم لماذا تغلبني الدموع دائماً مع سيرة أمل. وبين أبي وأمل والشعر أتعرف إلى نفسي. أرث من الأول حسّاً مرهفاً ومن الثاني تعلقاً محموماً باللغة والقصيدة. ومنهما معاً حبّ الأرض والقمر. أبي أحبّ الأرض ومنح روحه للنخيل يوماً بعد يوم، وأمل صرخ دفاعاً عنها ولعن التصالح حين صمت الجميع. وكلاهما تعوّد أن يأتمن القمر على أسراره في ليالي القرية المظلمة، وللمفارقة وجدت نفسي ذات يوم أصاحب القمر ولكن من خلف نافذة ناطحة سحاب في مدينة غريبة.وإذا كانت الغربة قدر الجنوبي الحالم، فإن معركته مع التمرد لا تكتمل من دون أن يتحول إلى أسطورة. هكذا أرى دنقل حين أقرأ قصائده المفعمة بالمجاز والرمزية الشامخة، كأن فارساً قديماً يطل برأسه من بين السطور، فارساً خاض معركته بنزاهة حتى آخر لحظة، لدرجة أنني أشمّ رائحة دمه الساخن في كلماته «الأخيرة» التي قالها ومضى سريعاً، مثل أبي أيضاً.
لقد تعلّمت من أبي أن الإخلاص طريق واحد، أن تمنح نفسك بلا شروط. وتعلمت من أمل أن الكلمة مسؤولية تمنحها نفسك وموقفك من العالم بلا مساومة. «إما أن تُخلص لقضية الشعر أو لا» هكذا يقول، وربما أكون من جيل يختلف في رؤيته للشعر أو يتخفف كثيراً من مسؤولية اللغة، لكني في كل الأحوال لم أستطِع الفكاك من أن أكتب قصيدة تشبهني، أي تحمل جينات الخجل والتطرف بلا مساومة، ورويداً رويداً تحوّل مرساة السفينة الثقيلة إلى بوصلة.
* شاعرة مصرية