سيمضي زمن طويل ولا ننسى أنسي الحاج. هو الشاعر الذي كان أكبر من شعره وأرفع سمواً. رجلاً لم يأبه للعلاقات الاجتماعية. رجلاً خجولاً حتى من نفسه، فلم يجد نفسه الا في الشعر. وفي الابداع، بل كان سابقاً لعمره، وعندما كتب «لن» كان في الخامسة والعشرين، وفي «لن» رسم خطاً لم يحد عنه، وأسس لقصيدة النثر التي جعل منها شعراً ينافس العروض والقافية والشعر الحديث بمجمله. كان صديقي لخمسين عاماً مضت، لم أسمع منه كلمة جارحة بإنسان، أو شاعر أو فنان.كان مترفعاً عن الاضواء، بل ومتهرباً منها، منصرفاً الى عزلته النفسية وانطوائه. غالباً اذا ما تسلّم مسؤولية، يكون متفوقاً فيها من رئاسة تحرير ملحق «النهار»، الى رئاسة تحرير هذه الجريدة نفسها، تركها عندما شعر بأنّ هناك محاولة لمراقبة أصابعه وهي تكتب. وعندما جاءت جريدة «الأخبار» وجد فيها مكانه الصحيح. وخلال سنوات التأسيس وحتى وفاته، لم يسأله أحد من مسوؤلي الجريدة ماذا تكتب. كان مرتاحاً هنا، يأتي متى يشاء ويذهب متى يشاء.
في الآونة الأخيرة من كتاباته، نحا منحى الفلسفة فسألته: لماذا ابتعدت عن الشعر؟ قال: الفلسفة هي الشعر، والشعر هو الفلسفة. صحيح أنه يحضر إلى الجريدة يومياً تقريباً، لكن كنت أجد فيه إنساناً منعزلاً.

ينكفئ دائماً على نفسه، ويريد الاعتماد عليها كي يعيش مصيره بأصالة، هو لذلك، كشاعر، يثير حفيظة الآخرين ضده، ويصبح هدفاً لحسدهم. إنهم لم يكونوا يطيقون رؤية شاعر يبحث بحق عن معنى لوجوده، فيتحالفون عليه لصرفه عن رسالته، ولتدنيس طهارة هذا القديس الذي يظهر لهم مقارنة بسموه الخلقي. كان انحطاطهم وحقارة شأنهم، أنهم يغارون منه، وكانوا بالنسبة إليه جيراناً مزعجين.
إنّ العزلة ثقيلة الوطء لا تقوى على تحملها سوى النفوس الكبيرة. أما الناس العاديون، فإنّهم يحاولون بشتى الوسائل التهرب منها باتجاه التسلية والثرثرة التافهة والضياع في حماة المجتمع، والانهماك في الأعمال المبتذلة والمشاغل الصغيرة. أما أنسي الحاج، فإنّ العزلة كانت قدره، عليه أن يهفو إليها، أن يعشقها وأن يقطع المسافات الطويلة ضمن مملكة أصقاعه الداخلية من دون أن يقابل أحداً، لكن إذا استغرق في وحدته وقطع علاقته بالناس، فإنه يحاول أن يكون قريباً من الطبيعة والعناصر والأشياء، أن يتأمل رهبة الليالي وأن يصغي إلى صفير الرياح التي تهز الأشجار وترود فوق الجبال.
أذكر، آخر مرة، تناولنا فيها العشاء في مطعم صيني في الحمرا. خرجنا في منتصف الليل وتسكعنا طويلاً على أرصفة الشارع الخالية إلا قليلاً، قال لي متبرماً: والله يا أخي ياسين ضاق صدري، فليلي نهار ونهاري ليل. أمشي وأحدث نفسي كمن لم يجد من يتحدث إليه. دخلنا الكوستا وشربنا القهوة فقال لي إنّ العزلة هي جوهر وجودنا، من يختبر تجربتها بأصالة يشعر كأنه واقف على قمة عالية مديراً رأسه، محاطاً بالمهالك والأخطار من كل جهة، حتى ليكاد الخوف من المجهول أن يحطمه. كل الآفاق مسدودة في وجهه، لا سند قريبا يستطيع الركون اليه، والبعيد يتوغل وينأى أكثر فأكثر. الخوف والقلق والموت وكل هذه الأمور التي نعزوها إلى الماورائيات، ونسميها ما فوق الواقع، هي بالفعل قضايا حسية ملموسة ومن صميم الواقع، لكننا نخنق صوتها وندفعها بعيداً. ونطردها من مجرى حياتنا المعيشية بواسطة الغريزة اليومية للدفاع عن الذات.
معظم الناس لا يرون من الحياة سوى الجانب المريح. وحده ذاك الذي لا يتهرب من رؤية الحقيقة كما هي، الذي يتوقع كل احتمال ولا يجبن أمام أي مواجهة، بل يختار الطريق الصعب، يعيش وجوده بملء. كل ما يبدو لنا غريباً يبدو في نظره طبيعياً ومألوفاً.
كان الألم في حياة أنسي الحاج يشبه ذلك الغول الذي تروي الأساطير أنّه يتحول إلى أميرة بارعة الجمال. إنه، اذاً، دليل على أن اعماقنا تتمخض عن فرح قريب والقدر يمسك بيدينا، ولن يعرض عنا، وعلى أننا يجب أن نترك المرض يأخذ مجراه وان ننساه حتى اللحظة الأخيرة.
واجه أنسي المرض بشجاعة، قليلون من كانوا يعرفون أن الشاعر يحتضر، بل في أيامه الأخيرة، كتب «حميميات» في الصفحة الأخيرة من «الأخبار»، تحدث فيها عن أصدقاء له بسطور قليلة، لم يكن أحد ينتبه أنها لحظات الوداع، وأنه سيتألم كثيراً لفراق هؤلاء.
كان أنسي الحاج قليل الاحتكاك بالآخرين، لكن عندما يضطر الى ذلك، يصبح هو النجم في الكاريزما التي تمتلكها شخصيته الجذابة، وكان محاطاً دائماً بالمعجبات قبل المعجبين، محبوباً حاضراً، أحاديثه لا يملّ منها المرء، كان يشبه الرسل في كل شيء، ناعماً كالحرير وقاسياً كالعاصفة، ساعياً الى الحقيقة، مهما كانت مؤذية للبعض وموافقاً عليها البعض الآخر..
في أيامه الأخيرة همس لي النهاية، وكان لا مهرب منها، زارني مراراً وأنا طريح الفراش من مرض لم أقم منه حتى الآن، وغالباً ما كان يهتف لي طالباً مني الصبر. وكان الأحرى أن يصبر قبلي. عندما انقطعت اتصالاته، أدركت أنّ النهاية قد اقتربت، فبكيته قبل أن يبكيه الآخرون. بكيته كأنني أنا الذاهب إلى النهاية.
مات أنسي الحاج
ليس صحيحاً انه مات، فما كتب من هذه الكتابات النادرة نصاً وروحاً كافٍ لأن يظل أنسي في ذاكرتنا إلى الأبد... شاعراً وانساناً رائعاً، أحببناه وسنظل نحبه ما دمنا في الحياة
* كاتب سوري