حين مات لينينيقال: إن جندياً من جنود الحرس
قال لرفاقه: لم أرد أن أصدق
فدخلت إلى حيث يرقد
وصحت في أذنه:
إيليتش... المستغِلُّون قادمون!
فلم يتحرك
الآن أعرف أنه قد مات.
(برتولت بريشت)


وحين قُتِلَ سعادة، ما كان قد أكمل كلامه، ولا كان أنجز مشروعه.
قال كثيرون، إنه قُتِل، ولكن موته، هو يوم ولادته الثانية، لذا، لا يزال حياً، بعد مرور سبعين عاماً على دمه.
هو من جيل ينتسب إلى المستقبل، جيل، كتب وبشّر وناقش وخرج على القديم التالف والموروث التافه، هو من رعيلٍ التزم الابتكار من أجل ما يليق بالحياة.
هؤلاء كلهم مضوا، ولم يموتوا بعد، في زمن يتجدد فيه موت الشعوب العربية، باسم الدين، أو الاستبداد، أو الاستعباد، أو الطوائفيات، في زمن بلغت فيه الصهيونية مرتبة الصداقة والتحالف والأخوّة مع «الأبراج» العربية المنحنية أمام سلطان العصر الأميركي.
لسعادة، فرادة التأسيس. لم يكن مفكراً مبتكراً فقط. الأفكار بحاجة إلى أجنحة وارفة وصدور عارمة واحترام ثابت وعقول مؤمنة، بأن تجسيد الحقائق بحاجة الى صرامة الالتزام. العقيدة وحدها لا تكفي، منذ نعومة أفكاره، وسؤاله الأول: «ما العمل؟». الأمة مصابة بويلات لا تحصى. أول مصائبها، أنها لا تعرف من هي، ولا ناسها يعرفون من نحن. كانوا أجناساً وعشائر وقبائل وطوائف ومذاهب متعادية. كانوا ينظرون إلى غرب ينصر بعضهم وينصر بعضهم الآخر. كانوا أدوات لغيرهم، يلثمون اليد التي تساعدهم ولا يدعون عليها بالكسر. وكان الغرب قد استكمل جريمتيه: تجزئة الأمة وتنفيذ وعد بلفور... كل ذلك كان كذلك، فمن أين يبدأ، ومتى يبدأ، وإلى أين؟


نواة صغيرة، خميرة في معجن كبير، تعاهدوا على ريادة الفعل، متكئين على قائد، تميز بالرؤية والفعل وجدارة الفعل. أسس حزباً، لم يكن كغيره من الأحزاب. كان عكس التيارات السياسية والطائفية والكتل الصلدة التي خدمت التركي والفرنسي، والبريطاني، وكان ضد كيانات هزيلة، جاثية على قدمي الاستعمار. لبنان كيان تنهشه الطوائفيات، ولا تزال، ولن تشبع. فلسطين يتيمة أمة، متروكة لنهب الصهيوني، مدعّماً بالغرب والشرق آنذاك. شرق الأردن، جائزة ترضية للهاشميين الذين أخرجوا من سوريا ــــ الشام ــــ بعد اجتياح عسكري ومقاومة باسلة وجريئة، ولكن فقيرة العتاد. عراق عريق، مزقته بريطانيا وأطاحت ثورة رجالاته في معركة غير متكافئة. وتم تسليم هذه الكيانات إلى طغمة مطواعة، يملي عليها الغرب، فيبصم الشرق عليها، متنازلاً، مرة بعد مرة، عن شعب يتطلع إلى فجر جديد، لقاء حفنة من سلطة مأمورة وسيادة منقوصة.
قبل أن يشرع في حصاد البدايات، اعتقلته فرنسا الانتدابية، فكان السجن فرصة لكتابة نصوص استكملها في الأسر الثاني. «نشوء الأمم» ولد في السجن، وخرج فريداً من نوعه، لأنه كتاب علمي، يشكل ركيزة نظرية لقيام دولة قومية، نستمد من واقعها ومن تاريخها ومن مصالحها، ما يثبت أحقيتها في الوجود. فسوريا ليست أمة تنتسب الى دين أو طائفة، وليست على قياس مطامع الاستعمار. إنها أمة لشعب عريق، أعطى الحضارة في التاريخ، زبدة الفكر والشعر والثقافة والعمران والحقوق. إنها ليست لقيطة مرمية، أمة تنتسب إلى ذاتها، قادرة على ان تكون رائدة وحيّة، ومساهمة في التاريخ الإنساني الآتي، كما ترسخت عطاءاتها، في ما قبل المسيحية والإسلام، وما بعدهما، وتحديداً يوم أصبحت دمشق عاصمة الدنيا، التي احتضنت إسلاماً ومسلمين، مسيحية ومسيحيين، وبلغت في التوسع شأواً إمبراطورياً حضارياً حاسماً... كل ذلك، بات في زمن الانحطاط والخضوع، آثاراً دارسة ورماداً يعمي العقول. اختار سعادة الطريق الأصعب، ولكنه كان مؤمناً أنه الطريق الأصعب، لا حياة لهذه الكيانات السياسية الهزيلة إلا إذا تبنت سياسة الاستقلال الفعلي، والاتحاد الحتمي، والإحياء القومي، لإقامة دولة الوحدة التي تصان بالحرية والعلمانية والراية الإنسانية.
شغله الحزب كثيراً، وشغله الوعي أكثر، لا يريد حزباً أميّاً. بل يسعى الى قوة مؤمنة فكرياً بأن لا حياة حقيقية خارج الصراع. والحزب أداة صراع، تملك الوعي والمعرفة والقوة والنظام، وتتطلع إلى إرساء دولة متينة وشعب يساهم في بناء حضارة، ويذود عن نفسه ومصالحه وفكره ومستقبله.
كان به شغف العقل، ما يأخذ عنه مهمة المتابعة الحزبية؟ تحلقت حوله نخبة من المثقفين والمبدعين. أسماؤهم ليست مجهولة. ولذلك انصرف، في اغترابه القسري، الى كتابة ابداعية، فتناول قضية الشعب والأدب، في كتابه «الصراع الفكري في الأدب السوري» الذي ترك أثراً كبيراً على شعراء الحداثة، أمثال خليل حاوي، أدونيس، نزير العظمة.
أما معجزة مؤلفاته، فكانت «الإسلام في رسالتيه» برهن فيه على أنّ الإسلام المحمدي دين لا دولة، والغريب في هذا المؤلف عمق معرفته بالإسلامين المحمدي والمسيحي، واطلاعه على الفكر الإسلامي بفروعه المختلفة واستناده الى الآيات القرآنية، التي تدعم نظريته التي تتفق مع نظرية علي عبد الرزاق، كل هذا، وما كان قد بلغ الخامسة والثلاثين من عمره.
يروي عنه رفاقه في السجن أنه كان ينظم الوقت وينفذ مهماته وفق تقويم زمني صارم. أكثر من أربع ساعات للقراءة، وساعات أخرى للكتابة، وهكذا تحول السجن الى مكتبة ومدرسة وتأليف. هاجسه الدائم: انتصار قضية الأمة، مهما بلغت التضحيات.
أما لبنان، فيا له من شهرة. يداه ملطختان بالدم.
لنقرأ المسألة وفق منطقها، النظام اللبناني طائفي استبدادي ومغلق. من يخرج عليه بقوة، تتم تصفيته. حروبه الداخلية تصفوية. كيف لنظام طائفي عاتٍ أن يقبل صعوداً مدوّياً لحركة قومية لاطائفية؟
لا مكان لأنطون سعادة في هذه المنظومة. ولا مكان له خارجها كذلك لأنه يشكل خطراً داهماً على التحالف الطائفي... خافت السلطة من عودته من اغترابه القسري، حاولت منعه، لكنه عاد. وامتلأت الساحات بالقوميين القادمين من الشام وأقاصيه ولبنان ومناحيه. حشود كبيرة خطب فيها سعادة، استقبلت كلماته بالعقول والحناجر، خافت الدولة أكثر، أصدرت مذكرة توقيف بحقه، انتهت بافتعال حادث الجميزة بعد شهور، ومطاردة المعتدى عليهم واعتقالهم. عقول جهنمية حكمت لبنان ما بعد «الاستقلال». عقدوا صفقة مع حسني الزعيم، وكان من المفترض قتله في طريق العودة الى بيروت، رفض المولج بالأمر، وعاد به الى العاصمة وكانت أبشع عملية قتل حصلت قبلها محاكمة صورية، بلا محام ثم تصديق على الحكم ليلاً. وعلى عجل، دفع بشارة الخوري ورياض الصلح ومجيد ارسلان على الإعلام. طلب أن يرى عائلته. قالوا لا. اقتادوه الى ساحة الإعدام. أطلقوا عليه الرصاص، صلّى الخوري بسرعة عليه، ودفنوه قبل الفجر بقليل.
قُتِلَ ولكنه لم يمت.
كان الجندي يعرف أنّ لينين ظل يقاتل طول عمره ضد المستغلين. لذلك يعود ويعترف بأنّ لينين ظل حيّاً، لأن هناك مستغلين.
وسعادة، ظل حيّاً، لأن أعداءه وأعداء قضيته وأعداء أمته، ما زالوا يستنسخون بشراسة أكثر ــــ وهمية أبشع، سلطات خائرة.
أمثالهما، لا يموتون، فإن سئلت أين سعادة الآن، إنه حاضر بيننا، لحاجة المستقبل إليه، انه، ماض لم يمضِ بعد، ومستقبل لا يكون من دونه.