كم هي كثيرةٌ المواضيع التي لمْ أعد أناقشها بالصدى نفسه منذ رحيلك. جلسنا ساعاتٍ كثيرة في مكتبك في جريدة «الأخبار» وغالباً ما تَحدّثنا كأصدقاء وشربنا القهوة وأكلنا الشوكولا. فقط أحياناً كلّمتني كحفيدتك عندما كنتَ تقلق عليّ.
كم تكلّمنا عن الحب، عن الخيال والحب، عن خيبة الأمل والحب، عن الأدب والفن. كم أخبرتَني قصصاً عن بيروت في الستينات والسبعينات وعن الحركة الثقافية فيها وفي محيطها. كم حدّثتَني عن باريس وكم شعرتُ بكَ عندما زرتُها متأخرة للمرة الأولى العام الماضي. كم تناقشْنا عن تفضيلي للمواجهة وراديكاليّتي في الصدق وعن حدّة أسلوبي. كم تناقشْنا عن نظرتنا للمرأة وكم اختلفنا أحياناً، حول بعض آرائي النسويّة التي كنت أنتَ تعتبرُها واقعية جداً و«عكْس الشعر» كما كنت تقول.
عندما قصصتَ عليّ ذكرياتٍ وحكاياتٍ من الماضي، كنتُ أصغي وأشعر بغبطةٍ لا أقوى على تفسيرها. لم أكن أجرؤ على مقاطعتك. كنتُ أعرف أني لو قاطعتك قد تنتبه أنّك تتكلم وعندها ستصمت وستنتهي القصة. كم أحببتُ هذا الجسر بيننا الذي امتدّ من نوستالجيا الماضي ورواسب بيروت في الحقبة الذهبية، إلى تغيّرات الحاضر وأحلام المستقبل. كم شعرتُ بالفخر والطمأنينة فيما أتشرّب ذكرياتك عن زمنٍ مضى. خلال إصغائي لك رأيتُ تلك الأحداث والمشاغبات تنبض بالحياة أمامي. ومرّات، كنتُ أُفاجئُك بمجيئي وأنت منهمكاً في كتابة مقالتك الأسبوعيّة. أصِل، أرى رأسك بين يديك ناظراً إلى الورقة أمامك، ترفع رأسك نحوي، تلْقي التحيّة سريعاً دون أن تتلاقى أعيننا، فأفهم. أجلس من دون كلام، أراقب يديك تتحرّكان، تكتبان. أراقب خطّك وأبتسم ابتسامة صامتة كي لا تشعر بأنك تُراقَب. في تلك الأوقات، كنتُ أتأمّل أهمية ذلك الصمت وأنا أشهد على عملية الخلق تلك. كنتُ أفكر كيف أني بعد رحيلك، سأتذكّر ذلك الصمت الغامر. لطالما سررتُ عندما وجدتُ في مقالاتك صدىً لأحاسيس وأفكار كنّا قد تكلمنا عنها في إحدى الأيام.
يوم ذهبتُ لتوضيب مكتبك مع أمي وأخي بدَوتُ باردة وعملية. فكرتُ فقط أنه الشيء الوحيد الذي يمكنني فعله في لحظات الانتظار تلك. سألني أخي «كيف قادرة تكوني هيك» وأجبْته «شو بعمل، حدا لازم يضبّ». شعرت يومها أنه من واجبي توضيب أغراضك في ذلك المكان، بِسرية وشفافية تشبهان وضعيّة رأسك بين يديك وأنت تكتب بصمت. فوضّبتُ أغراضك بصمت ولم أبكِ.
في عام ٢٠٠٨، قررتُ أن أستوحي موضوع الإخراج المسرحي لديبلوم تخرّجي من مجموعة لنصوصك. بعد انتهاء العرض قلتَ لي: «خلّيتيني إستِحي من حالي أنا وعم بِحْضَر قدّ ما كان العرض حميم». يومها اعتبرتُ هذه الجملة إطراءً، ولكني لمْ أسألك يوماً ماذا قصدتَ فيها تماماً. لربما قصدتَ أني اعتديتُ على خصوصية كتاباتك عندما حولتُها إلى حدَث بصريّ وصوتيّ. لم أسألك يوماً، وربما لو فعلت لكذبتَ عليّ كي لا تجرحني. لن أعرف يوماً.
تكلّمنا كثيراً وصمتنا كثيراً!
في الأشهر الأخيرة قبل رحيلك، كنتُ أراك يومياً وكنا نتحدث عن كل شيء إلا المستقبل. كنتَ تتكلم أكثر من العادة وتخبرني قصصاً، قصصاً، قصصاً (مع الوقت انتقلنا من القصص إلى مشاهدة أفلام سهلة ومضحكة للتمويه عن الواقع). شعرتُ بحاجتك الملحّة إلى مراجعة الحياة التي مرّت وتأريخها بطريقةٍ ما، فأصغيت. غالباً ما عدتُ إلى المنزل ودوّنتُ جملاً أو كلمات قلتها لي في سهراتنا المنزلية «حياتي مبنيّة على سلسلة صدَف»... في إحدى الليالي ظهرت أم كلثوم على التلفاز ورحتَ تغنّي معها! (ليتني أتذكّر الأغنية) غمرتْني السعادة عندما بدأتَ بالغناء! لمْ أسمع صوتك وأنت تغنّي منذ منتصف التسعينات... وكم كان صوتك جميلاً!
مؤخّراً أراك يومياً من جديد. أستعيد مشاهدة فيديوهات من طفولتي معظمها من تصويرك. أعيد مشاهدتها وأنا في طور تحضير عرض مسرحي جديد. تتكرّر لحظات صامتة بيننا في تلك المشاهد المصوَّرة، أشاهد مَقاطع من حياتنا اليومية على أشرطة أتعبَها الوقت. لمْ تكن تحب أن تُصوَّر، كنتَ غالباً وراء الكاميرا تطلب مني أن أرقص، أن أغني، أن أخبر حكاية أو أن أتحرّك «كأنّو مافي كاميرا». يفاجئني صبرك وأنت تؤرّخ مقتطفاتٍ من يوميّات حياتنا. تؤنسني ضحكتك وراء الكاميرا ويدفئني صوتك بينما تحدّثني، كما تستوقفني كادرات سوريالية في بعض تلك المشاهد بين عامي ١٩٨٦ و١٩٩٥. أتذكّر في تلك السنين كم كنتَ ترتجل قصصاً خياليّة! كنتَ حكواتيّاً ماهراً، مضحكاً، غامضاً، وكنتُ أغوص في مخيّلتك... وكم كانت ساحرة. في مجموعة رسائل كتبتها لك وعادت إليّ بعد رحيلك، أقرأ كم أحببتك، أقرأ كيف تطوّرت ديناميكيّة أحاديثنا من طفولتي إلى مراهقتي وما بعد. تستوقفني عبثيّة مسيرة تلك الرسائل التي كتبتها لك، ثم عادت إليّ لتذكّرني بشريط علاقتي بك. في إحدى الرسائل، أطلب منك أن تحتفظ بالورقة. ها هي الآن بين يدَيّ، فشكراً لاحتفاظك بها وها أنا أحفظك اليوم وكل يوم.

* ممثلة وفنانة مسرحية