من جوف القُرى كانت الحكاية، في قعر المغاور ومن داخل الجبال. ومن صقيع الثلج، ورتابة الشتاء، وحرّ التراب في الصيف ابتدأت الرحلة. من تمتمة أفواههم المسبحة، ومن رائحتهم العطرة التي طغت على رائحة البارود، بزغ فجرٌ جليّ هناك، كان جليّاً كفاية ليبعثر الدّنيا، ويسقط جميع المعادلات. سطعت شمسه على جباهنا، وجباه آبائنا كما ستسطع على جباه القادم من الأجيال. يحدث كل ذلك دون أن نعرف ماهية مصدره، وتاريخه. ذلك أننا لمسنا نتائجه وعايشناها -فقط النتائج- ولم ندخُل عميقاً في التفاصيل.بِلُغتهم، وبِدفء كلماتهم، ومن بحرِ دمائهم ودموع أمهاتهم، دوّن الشيخ كاظم ياسين كتاباً ضمن سلسلة قصص الأحرار، سُمّي بـ «أمير القلوب». كتاب يحاكي سيرة الشهيد القائد حسن محمد الحاج (أبو محمّد الإقليم/ ماهر) ومن خاض معه غمار تلك الأيام والليالي في أوائل المواجهات، موازاةً لمسيرة وتاريخ المقاومة، قبل وبعد الفتح، من أوّل طرقة لحفر خندق مليتا إلى التحرير، لينتقل بعدها الى سرد بعض أحداث حرب تموز، مع عرض الأسباب والمؤهلات التي جعلت من أبو محمد أميراً للقلوب، بكل ما يحتويه هذا النعت من معانٍ.
من منّا يعرف كيف حُفِر خندق مليتا؟ وبزنود من؟ من منّا يعرف ماذا حصل في سجد وبئر كلاب وبدر، وكيف حصل ذلك؟ من منّا يعرف كيف ذُلّ الصهاينة واندحروا من أرضنا؟ ماذا عن تومات نيحا، كيف تسلقت مجموعة من الشبان هذا الجبل الخشن، وكيف أمضى هؤلاء أياماً وأشهراً في جبالٍ خالية من أدنى مقومات الحياة؟ كل ما حققه هؤلاء يُرجع إلى فعل للمجهول، فلا ندري من حفر وواجه واقتحم بلحمه الحي وأبسط أدوات المقاومة. لا شكّ في أن سريّة العمل هي المركب الذي سحبنا من عمق البحر الهائج نحو المرسى، وكانت الأساس في النجاح، ولكن إلى متى ستبقى السريّة تلك مخبأة في قلوبهم؟
يحقّ لنا أن نعلم ما قام به هؤلاء وكيف صنعوه وأتقنوه واحترفوه، ليس لتقديسهم وتعظيمهم وهم كذلك، وليس حتى لمدحهم أو شكرهم وهم يستحقون، بل وجب علينا أن نحفظ تاريخهم الذي صنعوا وأورثونا إياه فأصبح تاريخنا. ولئلا ينطفئ نورهم، بات حتماً أن نُدرّسه لأطفالنا ونعلمه كل من نرى، كي نقول بكل ثقة من نحن ومن يكون آباؤنا. وكي نحفظ ونصون الوصيّة جيداً، وجب علينا أن نغرس هذا التاريخ في أذهاننا، مِن أجلنا لا من أجلهم. يجيب هذا الكتاب على الكثير من التساؤلات التي طُرحت أعلاه، ويوقد في القلب تعلّقاً أبدياً وإيماناً صادقاً وثقةً بدليل الأحياء في خط المقاومة الإسلامية التصاعدي، «لعلّه أيضاً يرمي في قلوب من يراقب من بعيد الشك أو يجعلهم يغبطوننا على تاريخنا». «أمير القلوب» كتاب يدفع القارئ إلى حمل مسؤولية إكمال مسير من وتدوا في الأرض أقدامهم، وربما يزيده حبّاً وشغفاً بهم، ويؤكد مجدداً أن كل ما نعيشه اليوم هو نتاج عمل دؤوب وتعب وسهر وإصرار على تحقيق الانتصار.
الكتاب، بغلافه المتواضع، وكلماته الساحرة، ما هو إلا باب إذا طرقته، وغصت فيه، سيُذهِلُك. باب نحو السماء، يزرع على كتفيك جانحين، لتطير نحوهم، سيخلق منك إنساناً آخر، ولكن دون قصد. وعليه، فإن الكتاب مدرسةٌ، روت سيرة شخص استثنائي وقدوة لكل من عايشه، في الإصرار والشجاعة والقيادة والإخلاص والجدية والمرح والحزم والعلم والأخلاق والتربية، قدوة في الزهد والقناعة والمحبة والتأقلم وحب الأرض والناس والله. هذا الشخص، يقودك نحو مفتاح بناء شخصية الإنسان الكامل، الاستثنائي، الصالح، الحديدي. عن غير قصد، يجذبك كتاب «أمير القلوب»، ليمتزج عالمه بعالمك. هيئته هيئة كتاب، إنما في الواقع هو سفينة، أهلها ينشلون الضائعين في البحر، بدافع الحب، بكل عطف، ليرشدونهم نحو حقيقة الإنسان وسبب وجوده.
«أمير القلوب»، هو جزء من كلّ أعظم. إذ لا يمكن فصله عن سلسلة عوامل تاريخية ساهمت في إيجاد بيئة شخصياته، فمن منّا يعلم أيضاً ماذا صنع أدهم خنجر وصادق حمزة، والسيد عبد الحسين شرف الدين والشيخ راغب حرب والموسويّ وعماد، ومن منّا يعرف ماذا صنع مصطفى بدر الدين وعلاء وحاتم حمادة وسلمان والكثير الكثير.
لا بُدّ من أن نبدأ من تاريخنا الحافل المشرّف والأصيل وأن ننتهجه أداة جديدة للمقاومة ونتعلم من دروسه حاضراً ومستقبلاً، ليعرف العالم بأسره من نكون نحن، ولماذا نحن، ولنؤكد أننا الحق والصدق والاقتدار والعزة.