«إيمان» (هبة علي) شابة تقليدية ومحافظة، لكن الظروف تدفعها إلى فعل صادم. هذا باختصار فحوى ما قرأناه عن فيلم «أخضر يابس» (2016 ـــ 72 د) للمخرج المصري محمد حماد (تأليفه وإنتاجه وإخراجه) قبل أن تتسنى لنا مشاهدته.
ما هي طبيعة هذا الفعل الصادم أو المشهدية الحميمية المحرمة في السينما التي يتطرق إليها الفيلم؟ لحسن الحظ هي ليست تماماً ما قد يتخيله المرء. الفيلم الذي يبدأ عرضه ابتداء من الليلة في «متروبوليس أمبير صوفيل»، يمتاز بقلة حواراته في حين أنّ المكان بحدته وجفافه وتصدعه ـــ جلد مدينة القاهرة كما يصوّرها المخرج ــــ يلامس جلد الشخصيات في جماليته الشاحبة. لكن نبصر في العلاقة بين الاثنين تماهياً وقطيعة في آن معاً. جمالية قد تتفق مع رؤية شبابية تستكشف جلداً آخر للمدينة أكثر قسوة، كما قد نراها أيضاً في فيلم «حار جاف صيفاً» (2015) للمخرج المصري شريف البنداري.
منذ مشهد البداية، ندخل ـــ عبر الردهة الواسعة والفارغة ـــ إلى بيت إيمان حيث أختها الصغرى تترقب وصولها. تحركات الأختين داخل البيت هي دائماً حذرة، مقتطعة، فلا راحة مع المكان الذي ـــ بديكوره الفارغ إلا من الضروريات ـــ كأنما يفتح معبراً للغائبين، من بينهم الأب والأم والأخ المتوفون. في مناسبة خطوبتها المنتظرة، تطالب الأخت الصغرى إيمان بشراء ستائر من شأنها أن تغطي الجدران المتشققة. بغض النظر عن الإستعارة التي يمثلها هذا الطلب الصغير كما يتبين لنا فيما بعد، عندما لا تنجح البطلة في دق المسامير في الجدران التي تتفتت من تلقاء نفسها، إلا أنّه حدث مهم بحد ذاته في الفيلم. في إيقاعه، يتتبع الشريط المهام الصغيرة التي تقوم بها إيمان تحضيراً لخطوبة أختها. كل تلك الأحداث والأفعال والمحادثات الصغيرة التي تشكل نواة السرد السينمائي، كإدخال الدبوس في الستائر، وتتبع الخيط داخلها لجمعها، وانتقاء الحلويات، ولفها، وتوضيبها، هي طقوس قد تكون الأهم في حياة إيمان، والكاميرا في تتبعها لهذه الطقوس، ولإيقاعها المتجانس، تدخلنا في جلد البطلة ونغرق معها في دور المراقب الصامت.
من جهة أخرى، يطالعنا إيقاع المدينة الرتيب، لقطة مترو الانفاق المتكررة المصورة من الأعلى وهو يعبر بنا من يوم إلى آخر يشبهه. لقطة الدرج اللولبي، وهبوط البطلة التدريجي نحو تلك الهاوية التي تشكلها المدينة... إلى جانب لغة الكاميرا الحميمة في اللقطات المقربة التي تلامس جلد البطلة الشاحب، كاشفة عن أدق تفاصيله ليبدو سطح الجلد اشبه بالصحراء، متماهياً مع جلد المكان. وفي ذلك تعرية تأخذنا إلى شفافية لا تخلو من الرقة. البطلة في صراع دائم ــ عبر اللغة السينمائية ــ ما بين التلاشي والحضور، فهي تارة تتوارى بين الانعكاسات كشبح، وطوراً حاضرة بقرب يقلق سكينة المشاهد. حدثان يفتتح بهما الشريط: زواج الأخت الصغرى المرتقب، وزيارة إيمان للطبيب إثر تأخر دورتها الشهرية والفحوص التي أجرتها في انتظار النتائج، والخوف من احتمال إصابتها بالسرطان. ولما يحين وقت الدورة الشهرية للأخت الصغرى، يفصّل لنا المخرج هذا الحدث الصغير المحرّم غالباً الحديث عنه، فكيف بتصويره، ضمن جمالية دقيقة في مقاربتها وحساسية الكاميرا في تناول هذا الحدث الاعتيادي في حياة أي امرأة، مما يشكل مشهدية قد تكون صادمة لبعضهم، وهذا إيجابي. نرى فعل وضع الفوطة الصحية في الحمام من خلال وجهة نظر الأخت. مشهد في حميميته يتماهى مع تجربة حسية مشتركة بين النساء. تليها أيضاً الخناقة التي تفتعلها إيمان مع أختها، اعتراضاً على الفوطة الملوثة بالدماء التي رمتها على عجل على أرض الحمام، معبرة عن اشمئزاز يعكس بحدته قلقها. أما المعضلة الثانية التي تواجه إيمان في محاولة تحضير خطوبة أختها، بالإضافة إلى الستائر لتغظية الجدران العارية، فهي البحث عن غطاء ذكوري لتمثيلهما في الخطوبة، إثر تهرب أعمامها واحداً تلو الآخر حتى يصل الأمر بأختها إلى اقتراح استئجار رجل يمثل دور عمها. في النهاية، تكتشف إيمان سبب غياب دورتها الشهرية.

تصوير العادة الشهرية
ضمن جمالية دقيقة في مقاربتها وصادمة للبعض
يطمئنها الطبيب إلى أنّها ليست مصابة بالسرطان، لكنها تعاني من انقطاع الطمث المبكر. خبر يتعدى المرض إلى المأساة بالنسبة إلى امرأة مثل إيمان وغيرها كثيرات ممن حرمن من خوض أي تجربة جنسية قبل الزواج بسبب ترهات المجتمع الذكوري. أخيراً، نكتشف ماهية الفعل الصادم الذي تقوم به البطلة إثر ذلك الخبر: تفض بنفسها ما يسمى بالغشاء العظيم، وتواجه الكاميرا بإصبعها الدامي. بالتأكيد، لو أقامت علاقة مع أحدهم، لكان ذلك ليعد «أقل سوءاً» بنظر المجتمع الذكوري، لكن أن يكون لها الحق في علاقة خاصة بجسدها، قبل أن يصبح موضعاً لرغبة الآخر، فتلك نواة ما يشكله غشاء البكارة.
المشكلة الحقيقية أن يعد ذلك فعلاً صادماً، وإذا ما كان المخرج يعتبره كذلك، فهو بالفعل لما يزل كذلك بالنسبة إلى كثيرين وكثيرات بغض النظر عن درجة انفتاحهم. علاقة النساء الخاصة بأجسادهن لما تزل ملتبسة وموضع خوف أو قلق ولو تخطينها في العلاقة مع الآخر. أحد تجليات هذه العلاقة الملتبسة هو تحفظ بعض النساء أو أغلبهن في المجتمعات العربية، عن الحديث مثلاً عن العادة السرية فيما بينهن. في تفسير تابو العذرية في كتابه «الحياة الجنسية»، يحلّل سيغموند فرويد فشل العلاقة غالباً مع الشريك الجنسي الأول بأنّ المرأة تشعر بضغينة ضمنية تجاهه بسبب صورة العنف الممثل بالدم المرتبط بالعلاقة الأولى والذي يؤدي إلى استفاقة جرح نرجسي، أو أيضاً جرح أولي أكثر قدماً يعيده فرويد إلى الطفولة، وشعور الفتاة بالخصي ورغبتها في امتلاك عضو ذكري. ثم يعطي مثالاً أحد الطقوس المعروفة عند القبائل البدائية، وينص على أن المرأة يجب أن تنام مع رجل آخر قبل زوجها، لأن العلاقة محكومة بسوء الطالع إذا كان الزوج هو الشريك الجنسي الأول... من دون طبعاً أن نوافق على نظرية فرويد التي تقترح عامة أن المرأة رجل مخصي. إلا أنه في اقتراح الجرح الذي يستفيق، ما يلفت الانتباه، كما هو العديد من اقتراحات فرويد عن حياة المرأة الجنسية إذا تناولناها بشكل منفصل. قد لا يكون منبع هذا الجرح سوى افتقادها لعلاقة خاصة مع جسدها تسبق علاقتها بالآخر وحقها باستكشافه من دون بعبع الغشاء وماهية الجرح الوهمي الذي يمثله.

* «أخضر يابس»: بدءاً من اليوم حتى 13 أيلول (سبتمبر) ـــ «متروبوليس أمبير صوفيل» ـــ للاستعلام: 01/204080