القارئ المهتم، يعرف بوجود أعداد كبيرة من المؤلفات عن تاريخ التصوير في العالم، ودور ذلك الفن والعِلم في تأريخ حقب تاريخية وأحداث، و«تجميد» الماضي. لكنها المرة الأولى ربما، التي يصدر فيها مؤلف عن التصوير ذو طبيعة إقليمية، وفي الوقت ذاته يتعامل معه من منظور دوره الاجتماعي في بلاد العرب العثمانية. «الصورة العربية - تاريخ اجتماعي للصورة الشخصية (البورتريه) ــ 1860-1910» (منشورات جامعة برنستون ــ 2016)، عمل نظري محض، لكنه يستعين بمصوّرات كثيرة (75 صورة) حصل عليها المؤلف اسطفان شيحا، رئيس قسم السلطان قابوس للدراسات الشرقأوسطية في «كُلدج وِليَم آند ماري»، علماً أنّه أصدر مؤلفاً آخر عن أسس الهوية العربية الحديثة.
أما المصورات التي ننشرها هنا، فهي التي سمح الناشر (منشورات «جامعة برينستون» الأميركية) باستعمالها، بعد الحصول على موافقة أصحابها.
لذا، فإن عرضنا هنا سيقتصر ـــ إلى حد كبير ــــ على التعامل مع شروح الكاتب للمصوّرات المرفقة. في الوقت نفسه، فإنّ الكاتب يؤكد أنّ دراسته هذه تقتصر على الصور الشخصية التي تمكّن من الحصول عليها، محترماً حقوق أصحاب المصورات التي رآها، لكنه لم يحصل على حقوق نشرها من أصحابها، بسبب خشيتهم من المستقبل الغامض في المنطقة التي تعجّ بمختلف أشكال الصراعات والحروب الداخلية، وتلك التي يديرها الاستعمار من الخارج، ورغبتهم في المحافظة على ما تبقى لهم من ذكريات شخصية خاصة.
قسّم الكاتب عمله الموسوعي إلى مقدمة (توطئة للتصوير الأهلي) تسبق جزءين يضمان ثمانية فصول.

الصور التي التقطها
المستشرقون تعكس نظرتهم الأيديولوجية للمنطقة
يتفحّص الجزء الأول (التواريخ والممارسة) مصوّري التواريخ الخاصة (Indigenista) ويحدد ماهية بورتريه النهضة ومحتواه الفكري. ومن هذا المنظور، فإنه يبدأ باستعراض أكثر استديوهات الإمبراطورية العثمانية شهرة. هذا الجزء يضم أربعة فصول تتعامل مع بدايات التصوير في «شرق المتوسط» العثماني (نفضِّل هذا المصطلح و«جنوب المتوسط» على «الشرق الأوسط» الاستعماري السائد، علماً بأنّ فضل اجتراح الأخير يعود إلى كاتبة أميركية سبق لنا عرض مؤلفها في هذا المنبر).
الفصل الأول في هذا الجزء يحمل عنوان «إمبراطورية الصور - الأخَوَان عبد الله (فرير) و«أيديولوجية العثمانليلك»، والفصل الثاني «التصوير العربي - جرجي صابونجي وصورة المنظر النهضوية»، والفصل الثالث «البطاقة الشخصية (VC) - اجتماعية الرجال والنساء الجدد». أما الفصل الرابع والأخير فيحمل عنوان «كتابة التصوير - المادية التقنية والحقيقة بحد ذاتها (أو الحقيقة تصنع نفسها)» (Technomaterilaity and the verum factum).ويشرح الكاتب ما يقصده بالتعبير الأخير بالقول إنه الإدراك الذاتي بأصولها التكنولوجية والتصميم وأصولها العِلمية.
أما الجزء الثاني «تحليل طوري والنظرية»، فقد خصصه الكاتب للحديث في دراسة محددة، مركزاً على قراءة بعض الصور الشخصية التي تظهر صحة التحليلات التي أوردها في الجزء الأول. هذا الجزء يضم أيضاً أربعة فصول هي: «درب البورتريِه: اجتماعية الصورة الشخصية»، و«بورتريهات تثبيتية، وتثبيت الحداثة»، و«المكنون وما بعد الصورة»، وأخيراً «مرآة مَلاذَيْن وثلاثة مصورين». ينتهي المؤلف بخاتمة «عن الطرف المحدد للتصوير العربي-العثماني».
ينوّه الكاتب إلى أنّ أول مصور عربي كان محمد صادق بي (1832 ــ1902) وهو أيضاً أول من صوّر طرق الحج من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة في عام 1861. وهو كان الأول، عالمياً، الذي صوّر السكان والحجاج وبيروقراطيي الدولة العثمانية والأمكنة المقدسة في المدينتين. في الوقت نفسه، فإن محمد صادق بي كان أول من درس تضاريس الحجاز ووضع المقاييس فيها، إضافة إلى طرق الحج، ضمن بعثة مصرية. عمله هذا كان ضمن مشروع عثماني لدراسة السكان وضبطهم، في المدن والأرياف.نذكر هذا لأنّ عمله هو الدليل لصدور التصوير في المجتمع العربي-العثماني، ونعثر على تفاصيله في كتاب «نبذة في طريق اكتشاف طريق الأرض الحجازية» الصادر عام 1877. أهمية عمل محمد صادق بي تكمن أيضاً في أنه يدعونا إلى النظر في ما تم تجاهله في الماضي ألا وهو اهتمامه بعرض حديث للفضاء (space).
يشدد الكاتب على ضرورة تمييز «المنظر» بالإنكليزية perspective والمنظر الكامل العائد إلى عهد النهضة الأوروبية القائم على التوازن والتناسق، كما يختلف، دوماً وفق الكاتب، عن آراء الكِندي وابن الهيثم. «المنظر» لدى صادق بي كان موقفاً فكرياً ومرئياً.
بالتالي، فإنّ تفاصيل أعمال صادق بي العِلمية لم تكن فقط جزءاً من مشروع والي سعيد التحديثي الذي دعم المشروع مادياً وفكرياً، وإنما تعكس النهضة العربية أيضاً. لذا وجب النظر إلى أعمال صادق بي التصويرية والنظرية بوصفها مكوناً تاريخياً أكبر يحدثنا عن استعمال التصوير وتوظيفه وقيمته في النهضة العربية.
هذه المقدمة التي تلخص أهم أفكار الكاتب النظرية، ضرورية لفهم توجه الكاتب والرسالة الأساس لمؤلفه الذي يتجلى في الجزء الثاني من المؤلف. هنا، ينتقل لمقارنة أعمال صادق بي ومصورين عرب آخرين بالأعمال التصويرية لمجموعة من المصورين المستشرقين الأوروبيين والتقنيات التي كانوا يستخدمونها ومنهم على سبيل المثال نويل بايمال ليربور، وغوستاف لو غراي، وهنري فوكس تالبوت، هيبوليت بايار، هنري لو سيك، ماكسيم دو كان، أوغست سالزمان، وغوستاف فلوبير... يرى المرء في صور هؤلاء عن شرق المتوسط وجنوبه العربي- العثماني، النظرة الاستعمارية التي ترفض رؤية الحياة الشرق- متوسطية، وكذلك ممارستها دور المسوغ الفكري لاستعمار فرنسا للمنطقة.
من هذا المنظور المختصر، فإنّ هذا المؤلف ـــ وفق الكاتب دوماً ـــ يبحث نقدياً في إنتاج الصور عن المنطقة فكرياً وغير ذلك. لذلك، فإنّ الكاتب يشدد على أنّ مؤلفه يتعامل نقدياً مع انعدام الاهتمام بالتصوير الأهلي في كل من مصر ولبنان وفلسطين (العثمانية) بين عامي 1860 و1910. بناءً على ذلك، فإنه يحاول التعامل مع التصوير الشخصي (البورتريه) كممارسة اجتماعية وتشريع اجتماعي وتكثيف للتحول الاقتصادي السياسي. ينظر المؤلف عبر الصور وإليها «بهدف قراءتها كنتاج حسي وإبداعي، وكذلك كتأمل استفزازي لطبيعة التصوير على نحو عام».
مبادئ التصوير العربي - العثماني ــ يورد الكتاب ــ تؤكد أولاً أن التصوير بمجمله يعبر عن علاقات اجتماعية، وثانياً أنّ التصوير في العالم العربي-العثماني هو ذو تأثير يستمر إلى ما بعد الصورة (afterimage). أخيراً، هذا بصفته المصطلح الأخير، فإنّ البورتريه موضوع مادي يعمل على مستويات ذات حدود مشتركة تعبر عن الحياة والمستوى الكامن اللذين استثنيا من الظاهري. لذا، فعند وضع التصوير العربي ضمن النسيج الرأسمالي والأيديولوجيا والتغير الاجتماعي وتشكل الطبقات وبرامج الدولة، يمكننا عندئذ فهم الصورة على أنها تعبير عن علاقات اجتماعية.
لننظر الآن إلى البورتريهات المرفقة في هذا العرض ونظرة المؤلف إليها.
الصورة رقم (1) التقطها صباح وتوالييه في مدرسة عليا في بغداد، تتطابق مع صورة سابقة التقطت في مدرسة مدينة بورصة لطالبين من دمشق. الطلاب يظهرون دوماً على نحو مزدوج، ولباسهم مدرسي يوحي بتطلّعهم إلى أن يصبحوا أفندية. نظرتهم مصوبة دوماً إلى الأمام، ويظهر جسمهما كاملاً، من الطربوش إلى الحذاء، ويقفان في حالة انضباط. بمقارنة الصورة المرفقة والأخرى الواردة في المؤلف، لا تظهر أي تباينات إثنية أو مذهبية أو قبلية. الطلاب جميعهم متطابقو المظهر على نحو متكامل، وهم جزء من نتاج التعليم العثماني والبنية التحتية والنتاج المعرفي العثماني.
التعاون بين المصورين ومنهم جرجي صابونجي وداود صابونجي وخليل رعد وكريكوريان وفتال وغيرهم، في مختلف مدن شرق المتوسط وجنوبه، العربي-العثماني، أي القدس وبيروت والقاهرة والإسكندرية واسطنبول كان قائماً. هذا ما يظهر في مختلف الصور، لكن يظهر أيضاً الاختلاف في التكوين بين مصوري شرق المتوسط وجنوبه، أي في مصر. صور صابونجي وكريكوريان تعكس محلية البورتريه حيث يرتدي الأشخاص اللباس المحلي. وفي الصورة الثانية، فإنّ المصور يؤكد للناظر عدم رفض اللباس «الإفرنجي» الذي ترتديه المرأة.
الصورة (2) لصابونجي وكريكوريان بين عامي 1880 و1890، تظهر الاختلاف بين مصوّري شرق المتوسط، أي سوريا وجنوبه، والمقصود هنا القاهرة والإسكندرية في مصر، أي بين صابونجي وكريكوريان من جهة وصباح وفتال من جهة أخرى. فالرجل وزوجه البيروتيان يشددان على انتمائهما المحلي بارتداء اللباس الخاص بمنطقتهما (أفندية) مقارنة بالصور الشخصية التي التقطها صباح وفتال في مصر التي تظهر الأشخاص مرتدين ملابس أوروبية (إفرنجية).
الصورة (3) لجواد الحسيني، من تصوير كريكوريان في القدس، تعكس اهتمام المصورين في فلسطين، ومنهم الخالدي وشاهين وجوهرية، بتصوير المسؤولين، بما يعكس رواية للتاريخ الوطني والتاريخ المحلي.
الصورة (4) العائدة لجورج تابت من بيروت، لفتاة من لبنان تظهر من دون غطاء الرأس (طرطير) الذي ترتديه المرأة في الصورة السابقة لها حيث يطغى اللباس فيها على المرأة. أما صورة الفتاة اللبنانية، فتظهر شخصيتها ولباسها الأبيض الذي ترتديه احتفاءً بعيد الفصح، وهو تقليد كان سائداً في لبنان وفلسطين. إضافة إلى ذلك، فإنّ هذه الصورة التقطت في منزل الفتاة وليس في استوديو، أي أن الفضاء الاجتماعي ظاهر في هذه الصورة.
الصورة (5) من تصوير كريكوريان ويظهر فيها فادي أفندي وابنته مريم وابنه موسى. تعكس هذه الصورة الحياة الشخصية والعائلية لفادي أفندي من العائلة المقدسية المرموقة، أي العلمي، وهو كان من بيروقراطية الدولة العثمانية وعضواً في برلمانها ومحافظ القدس بين عامي 1906 و1909.
الصورة (6) التقطها محمد صادق بي عام 1880 لشيخ مسجد النبي في المدينة المنورة شوكت باشا واثنين من الآغا، أي كبار الخدم، إلى يمينه ويساره. يحلّل الكاتب الصور بالقول. مقارنة بصورة أخرى للأشخاص الثلاثة، فإن هذه تفتقر إلى وضعية الجسد وتعبيره اللذين ينقلان وقاراً ومنزلة رفيعة. هنا يظهر شوكت باشا باهتاً ويفتقد جسده إلى الدينامية، وفي الوقت نفسه تعكس الصورة علاقة الملك بالعبد (الخصي)، أي ملاك عبيد، لا غير.
الصورة (7) تعود لمصور مجهول، وهي للواء إبراهيم رفعت أمير المحمل المصري عام 1908. ظهرت في مؤلف «مرآة الحرمين أو الرحلة الحجازية»، وتعكس الموقع العسكري والسياسي للجنرال المصري.

البورتريه بوصفه تشريعاً
اجتماعياً وتكثيفاً للتحول الاقتصادي السياسي

الصورة (8) والأخيرة لمصور مجهول تعود لعون الرفيق باشا أمير مكة المعفى من منصبه. لكن لباسه، وتحديداً عباءته المطرزة التي تغطي الأوسمة العثمانية، والموقع المتقدم لسيفه ذي الحجم الأكبر من المعتاد، عناصر تعكس موقعه وانتماءه.
ننهي عرضنا المختصر لكتاب تتجاوز محتوياته المساحة الممنوحة لأي عرض بتأكيد بعض الحقائق منها أنّ حرفة التصوير أو فن التصوير بدأ في مرحلة التوسع الاستعماري في جنوب المتوسط وشرقه. وعلى هذا، فإن الصور التي التقطها السيّاح والمستشرقون تعكس نظرتهم الأيديولوجية للمنطقة وشعوبها، مما شوّه صورة شعوب المنطقة لدى مخيلة الأوروبيين. ومن هنا، تأتي بعض نقاط أهمية هذا المؤلف الموسوعي لأنه يتناول بالبحث والتحليل مصوّري الإقليم وأعمالهم، وكذلك محبي جمع الصور وناشري المجلات المصورة. لذلك، نرى الكاتب يركّز على صور البورتريه العائدة لمصورين عرب وأرمن في الإمبراطورية العثمانية.وفي هذا المؤلف، نعثر على أعمال استديوهات لم تكن معروفة من قبل منها العائدة لعبد الله فرير، وباسكال صباح، وخليل رعد، وغرابد كريكوريان، إضافة إلى أعمال بعض الرواد ومنهم جورج ولويس صابونجي، والأخوان كوبا، ومحمد صادق بي، وإبراهيم رفعت باشا. كما يظهر المؤلف الدور الطليعي الذي مارسه التصوير في خلق المجتمعات العربية الحديثة في فلسطين وسوريا ومصر ولبنان في نهايات الدولة العثمانية، واضعاً حداً للنظرة الأوروبية-المركزية للمنطقة وتطورها.
المجهود الكبير الذي وظفه الكاتب في هذا المؤلف، ينعكس في مجموعة من المراجع التي استخدمها ومنها المجلات والصور العائدة إلى عائلات والمحفوظات الموزعة في مختلف المكتبات في أكثر من بلد، إضافة إلى الصحف والكتب المصورة المتخصصة في المادة.