لا يغفل ربيع مروّة (1967) عن الحرب الأهلية اللبنانية. وإذا كان هناك من غياب لها، فإن الفنان اللبناني لا يخفيها إلا ليدفع بها مجدداً إلى الحروب الراهنة واللاحقة، ولا يقتطع أيّامها إلا ليجعلها أيّامه الخاصّة. يوميّاته الشخصية التي يقدّمها في معرضه الفردي الأول في بيروت «سنة كبيسة» في «غاليري صفير زملر» (الكرنتينا ــ شمال بيروت) حتى 29 تموز (يوليو)، ليست بذلك القدر من الخصوصية التي قد ننتظرها من اليوميات.
لكن هذا لا يأت على إحداث أي فارق بالنسبة إلى مروة الذي لا يعترف بالحدود بين الشخصي والتاريخ السياسي، ولا بين الوسائط الفنية. اللوحات البيضاء غالباً، هي كولاجات اقتطعت من الصحف المحلية بين عامي 2006 و2016. وفيها اختار مروّة كائناته بعناية، كما يبدو من القصاصات، مفككاً التجسيدات البصريّة للأحداث الكبرى. في «يوميات سنة كبيسة» (2017)، ألصق الدبابات والجرافات ومراكب المهاجرين والجنود والناجين، بحجم صغير لا يكاد يغطي جزءاً ضئيلاً من البياض. وإن أراد مروّة أن يجعل من هذه المشاهد المقتطعة هي الحدث اليومي بنفسه، فقد مرّر ذلك أحياناً بعض الخلاصات البصريّة البائتة كصورة جندي يجلس على جماجم بشرية مثلاً. تقتحم الأحداث التاريخية الجمعية، المساحة الضيقة لحياة الفنان التي يغيب وجودها كلياً عن لوحاته الصغيرة. هنا تبدو الأيام تنويعات على قصّة واحدة جرت وتجري وربّما ستفعل ذلك دائماً. التوارث السياسي للأحداث يجري عبر خط زمني متواصل، في معظم أعمال المعرض. يتنقّل مروّة بطلاقة بين التواريخ الفردية والجماعية. معادلة تخضع لها معظم فيديوهاته وصوره، ونصوصه، وتجهيزاته الاستعادية في المعرض. نشاهد هوس خالته بالتلفزيون في تجهيز فيديو «بين معركتين» (2013). وضع مروّة خمس تلفزيونات، تنقل لنا أنواعاً مختلفة من التشويش وانقطاع الصورة الناتج عن عطل مرتبط بحدث ما. وكما يقول لنا النص المرفق، فإن خالته كانت تسجل هذه الفيديوهات المشوّشة لاعتقادها بأنها تحوي رسائل من العدو. أرفق مروّة كل تلفزيون، بتاريخ التسجيل والحدث الذي يكتنزه ابتداء من أولى سنوات الحرب الأهلية اللبنانية في 2 نيسان 1976 (أثناء التحضير لانتخاب رئيس جديد خلفاً لسليمان فرنجية)، و21 تموز 1980 (يوم أعلن موظفو تلفزيون لبنان إضراباً، احتجاجاً على اختطاف مجلس إدارته شارل رزق) ثم 30 كانون الثاني عام 1989، يوم اتفاق حركة أمل وحزب الله لحلّ النزاع بينهما. وحرب 2006 عبر شاشة المنار التي انقطع بثها قبل أن يعود مجدداً من مكان مجهول، وأحداث 7 أيار عام 2008، عبر انقطاع البث في تلفزيون المستقبل بعد تعرضه للهجوم من قبل عناصر من حزب الله. لكننا لا نرى شيئاً، لا رسائل العدو، ولا تلك الأحداث اللبنانية. أين يحصل التشويش، في الشاشات أم في الذاكرات اللبنانية وسردياتها المتباعدة والمتناقضة للأحداث؟ يعبث مروة بالتواريخ ويبدّل سياقاتها، لكن ذلك لم يحل دون أن تعلق بعض الأعمال في الإطار الزمني الماضي. في «الجد الأب الابن» (2010)، يستثمر مروة الأرشيف العائلي.

التوارث السياسي للأحداث يجري عبر خط زمني متواصل، في معظم أعمال المعرض

أرشيف لم يفلت من سطوة الأحداث الكبرى وهالتها ما فوق الطبيعية (وفق طرح ربيع)، التي تظهر كفلك يعرقل مصائر ذكور العائلة الثلاثة. جدّ الفنان، المفكّر الراحل حسين مروّة، اغتيل عام 1987 فيما كان ينهي الجزء الثالث من كتابه «النزعات الماديّة في الفلسفة العربية والإسلامية». أما والد مروّة فكان ينكبّ على إتمام كتاب رياضيات لمناقشة مسألة لليوناردو فيوناتشي، بالتزامن مع الاجتياح الإسرائيلي عام 1982. شجرة العائلة، تتمدّد إلى الابن والحفيد ربيع مروّة الذي أنهى قصته القصيرة الأولى والأخيرة عام 1989 مع انتهاء الحرب الأهلية. نشر الولد قصّته في «جريدة النداء» الشيوعية قبيل تحقق نبوءتها وإصابة منزلهم بقذيفة. هناك سرد لحيوات الرجال الثلاثة المتداخلة بين المشاريع الفردية الخلاقة وتحوّلات الحرب. يعرض مروّة بطاقات مكتبة جده التي كانت تضمّ 8000 كتاب، ويصفّها في المعرض من دون الترتيب الألفبائي، ويحبس أوراق والده داخل علب بيضاء كبيرة تشبه التوابيت المرصوفة على الأرض.
في فيديو على شاشة التلفزيون، يتفرّغ إلى قراءة قصته «كش مات» أمام واجهة مكتبة جدّه. أحد أبرز أعمال المعرض هو فيديو Duo for Two Missing Persons عام 2013. في محاضرته التفكيكية يشرّح مروة الحاضر على مرأى من الجثث والأشباح. يقلّص أقصى درجات العنف إلى معادلة ذهنية رياضية. ينطلق مروة من الاحتمالات الكثيرة ـ الخاطئة والصائبة ـ لمحاولة تركيب الأعضاء المقطعة لجثتين؛ الأيدي والأقدام والرأس... يستعين بوالده ليجري معادلة رياضية رقمية، تنتج عنها كمية وافرة من احتمالات وصل الأعضاء، التي يرسلها إلى صديقته مصممة الرقص. يطلب منها أن تصنع منها كوريغرافيا لرقصة، ليأتي الجواب أكثر حيرة: إنها «رقصة ساكنة» بينما «الراقصون بحركة مستمرة».
يتخذ مروّة موقفاً حيادياً تجاه العنف، من خلال المعادلة الرياضية المكتوبة بالطبشور على الجدار، قبل أن يجد المرادف الراقص الأقرب لها في الواقع. يجده في بيروت وتحديداً في منطقة الكرنتينا بين مقابر الحرب الجماعية وبين B 018، النادي الليلي الذي يدعو زواره للرقص في أسفل الأرض. يدخل مروة إلى الحرب السورية وتجلياتها البصرية في فيديو shooting images الذي يمزج بين المعنيين (shooting: إطلاق نار والتقاط صورة). العمل هو جزء من عرضه الأدائي pixelated Revolution. في الفيديو (9 د)، ينطلق مروة من عبارة «المتظاهرون السوريون يصورون موتهم»، التي انتشرت على يوتيوب، مع فيديوهات المتظاهرين التي كانوا يلتقطونها بهواتفهم. يعيد صديق مروة تجسيد أحد هذه المشاهد التي يصوّب فيها قناص الجيش السوري على أحد المتظاهرين. تلتقي عينا البندقية والكاميرا، التي يختفي المصوّر من كادرها ولا يتم التعرف إليه إلا حين يسقط مقتولاً بفضل تداعي حركة الكاميرا. عبر الشرح الجاف المرفق بالفيديو، يوثق مروة لإحدى وسائط الثورة السورية. يختبر الصراع بين الكاميرا والبندقية، معيداً إلى المتظاهر المقتول صورته المعكوسة في حدقتي عيني القاتل. يسائل العمل بعد الصورة من منظور الميت أيضاً، فيضع بجانب الفيديو سبع صور غبشة بعنوان Blow Ups (في محاكاة للجودة التي تنعكس فيها الصورة في العين) لرجال وعساكر يصوّبون بنادقهم باتجاه المصوّر المقتول وباتجاه المتفرّج على السواء. من زاوية أخرى يتوقف مروة عند أزمة اللاجئين السوريين في عبورهم البحر المتوسط في عمله «البحر الأبيض المتوسط» (2011). نشاهد بحراً ثنائي الأبعاد على أرضية الغاليري، سننتظر دقائق لتطوف فيه جثة على وقع موسيقى منبعثة من تشيللو. يتضمّن المعرض أيضاً أعمالاً أخرى مثل «بعد منتصف الليل» (2013)، و«خرائط» و Do not spread your legs. في هذا الفيديو (7 د ــ 2011) يستنطق مروّة الرقيب، مجبراً إياه، بطريقة مراوغة على ترديد العبارات («التي تخدش الذوق العام والتي من شأنها أن تثير النعرات الطائفية الحزبية») التي كان قد اقتطعها من مسرحيته «من يخاف التمثيل» قبل أعوام.

«سنة كبيسة» لربيع مروّة: حتى 29 تموز (يوليو) ــ «غاليري صفير زملر» (الكرنتينا ــ شمال بيروت). للاستعلام: 01/566550.