أول عملٍ توثيقي لسيرة سامي الشوا (1885 ــ 1965) الشخصية والفنية، صدر أخيراً عن «دار الساقي» (برعاية «مهرجان أبو ظبي» و«مؤسسة التوثيق والبحث في الموسيقى العربية»)، بمناسبة الذكرى الخمسين لرحيله.
يعتبر «سامي الشوا أمير الكمان» للموسيقيين أحمد الصالحي ومصطفى سعيد من المراجع النادرة التي تناولت التراث الموسيقي العربي بجدية علمية وحيادية صادقة. هو خطوة إيجابية تحاول إعادة بناء جزء صغير من جسرٍ، لعله يغطي الفجوة التاريخية الكبيرة التي حجبت الوجه الفني لتقاليد هذه المنطقة الموسيقية.
لقد تكوّن هذا النظام الموسيقي المقامي في العصر الأموي «عبر تجميع مختلف التقاليد الموسيقية المقامية في نظامٍ موسيقيٍّ واحدٍ عامٍّ»، ليزدهر في العصر العباسي. ومع ذلك، لم يقارَب هذا النظام بأي دراسة أو توثيق علمي منطقي حتى يومنا هذا، إذ تعرض للتشويه، والمبالغة والتأليه «في ثوابت أسطورية تناقض كل الوقائع الملموسة والوثائق الموجودة لزمنٍ غير بعيد عنا...».
في قراءتنا للكتاب، نشعر بالجهد الذي بذله الكاتبان للمحافظة على الدقة و«الحقيقة» في توثيق المراحل التاريخية والفنية ليس فقط لـ «أمير الكمان»، بل أيضاً للحقبة الموسيقية الإقليمية آنذاك، من دون أن يقلقنا استنباطنا لعاطفة الكاتبين تجاه العازف والتقاليد الموسيقية المشرقية. مصطفى سعيد الموسيقي والمطرب وعازف العود، ومؤسس «مجموعة أصيل» للموسيقى الفصحى العربية المعاصرة، وصاحب إصدارات موسيقية عدة، هو أيضاً باحث موسيقي ومدير «مؤسسة التوثيق والبحث في الموسيقى العربية». أما أحمد الصالحي، فهو عازف كمان شرقي، وباحث موسيقي ومؤسس «موقع زرياب للموسيقى الشرقية» عام 2000.

في مقدمة الكتاب، نقاش حول ولادة ابن حي باب الشعرية السوري الأصل، وتاريخ عودته من حلب إلى مصر. جدلية ودلالات واستنتاجات لتواريخ الأحداث وأماكنها في زمنٍ «لم تتبلور فيه فكرة الحدود والقوميات والهويات وجوازات السفر في الشرق». أما الفصل الأول، فيتناول الكاتب الحياة الاجتماعية والفنية لابن انطون الشوا، ذي العائلة الموسيقية التي ساهمت في تشكيل ذائقة سامي الموسيقية، التي بدأت قبله بمئتي عام.
تكوّن هذا النظام المقامي
في العصر الأموي
هكذا نتعرف إلى تاريخ الكمنجة العربية ودور انطون الشوا في نشرها في مصر لتأخذ مكان الرباب في وضعية أفقية لا عامودية. كانت الكمنجة بشكلها اليوم تستعمل في حلب منذ أن جاء بها الأتراك من اسطنبول. هذه المدينة التي لطالما لقبها الشوا بزهرة الموسيقى، نشأت فيها عائلة الشوا التي اشتهرت إقليمياً بنشاطها في مجالي الغناء والعزف وتجارة الآلات الموسيقية في عصرٍ كانت فيه حلب وجهة الكثير من التجار والسياح والمسافرين قبل افتتاح قناة السويس عام 1869. عرفت «نوبة الشوا» التي عزفت لجيش إبراهيم باشا بدخوله حلب واحتفاءً بنصره على الأتراك آنذاك، وترأس الفرقة جد سامي الذي عزف الـviola d›amore برفقة أبيه وأعمامه.
يتابع الفصل الأول مسيرة الشوا الذي كان اسمه يوضع على الأسطوانة («على تخت سامي أفندي الشوا») لـ «يبيع» أكثر. عاش عصر النهضة الموسيقية، وعصر بداية التسجيلات التجارية. عمل مع شركات عالمية ومحلية مثل «اوديون»، «بيضافون»، «كولومبيا» و»ميشان»، حتى تم إصدار آخر أسطوانة له بعد رحيله عام 1999 من خلال الباحث الفرنسي فريديريك لاغرانج. تتخلل الفصل نبذة تاريخية عن الفنانين الذين عاصروا تلك الحقبة منهم ابراهيم سهلون، محمد ابراهيم، محمد العقاد، يوسف المنيلاوي، سيد الصفتي، أمينة العراقية، نهوند والراقصة تحية كاريوكا... إلى جانب قصة سامي الشوا مع التسجيلات التجارية، يروي الكتاب تجولاته الموسيقية العديدة، تسرد بشكلٍ قصصي مشوق وغني بالأحداث التاريخية مثل قصته مع الموسيقى التركية في اسطنبول، وصداقته مع جبران خليل جبران الذي كان يتوق لسماع كمنجته في واشنطن. إلى جانب ذلك، نطلع على مقتطفات من الصحف العالمية تصف الموسيقى الشرقية من خلال «أمير الكمان»، ومدونات شعرية تمدح موسيقاه. ثم نرى الشوا كمنظر موسيقي أصدر كتابين ومدونات موسيقية.
أما الجزء الثاني «فنه وأسلوبه وثقافته»، فهو الذي يجعل الكتاب مصدراً أساسياً لكل موسيقي يتعاطى التقاليد الشرقية، بما فيه من تنظير جدي حول أسلوب الشوا في العزف والتزيين. هكذا، نتعرّف إلى أسلوب عصر النهضة وكيف قاربه الشوا بمنظور غربي باستعمال التدوين والتقنية الغربية لتقوية الأداء، على أن لا يمس طبيعة هذا النظام الزلزلي الارتجالية. نرى كيف أن «جزءاً كبيراً من عزفه يعتمد حقاً على موهبته وفطرته، لكنّ جزءاً يساويه يعتمد على معرفةٍ وثقافةٍ وعلمٍ بأصول النغم قديمة وحديثة...». يليه الجزء الثالث الذي لا يقل عنه أهمية لما فيه من نماذج تحليلية تفصل أجزاءً متنوعة من مقطوعات تقليدية ومستحدثة للعازف.
يختم الكتاب الباحث والموسيقي نداء أبو مراد في «أمير الكمان السراني» ليشرح ماهية «الإمارة الكمانية» التي ورثها سامي من أجداده في حلب الذين طوعوا «الكمان الرومي» ليُدمج في التقليد الموسيقي الحلبي. يظهر دور الشوا في إعطاء العزف دوراً أساسياً مستقلاً عن الغناء، لا بل يذهب إلى حد مصاحبة الشيخ علي محمود في الإنشاد الديني الإسلامي. يعرض أبو مراد أيضاً تحليلاً روحانياً وفلسفياً لموسيقى عصر النهضة المتأثرة بالصوفية وكيف أُخضِع اللحن الموسيقي الشرقي للوزن الكلامي التجويدي، مسيحياً كان أم إسلامياً، «فإن التقسيم عند سامي الشوا يتماهى مع تجويد ترنمي يقوم به العازف على أساس نص افتراضي محجوب يجري فيه أمير الكمان تأويلاً موسيقياً». لعل هذا الوصف ينصف الكتاب لما فيه من قيمة تاريخية علمية لا تتوجه فقط إلى ذوي الاختصاص بل إنّه يقدّم تفسيراً مبسطاً لتقليدٍ «شريف» عميق بوجهيه الفني والفلسفي.

نصّ الباحث والموسيقي نداء أبو مراد «أمير الكمان السراني» متوافر على موقعنا