تختار المخرجة ليزا أزويلوس أن تفتتح فيلمها «داليدا» بمحاولة انتحار داليدا الأولى وتختتمه بالأخيرة، مروراً بالطبع بانتحارات عشاقها التي بَصَمت حياتها: أولهم المغني الإيطالي لويجي تنكو التي حاولت الانتحار بعده، وزوجها السابق لوسيان موريس الذي انتحر بعد سنوات عديدة على انفصالهما، وأخيراً حبيبها الأخير ريتشارد شنفري. في أحد مشاهد الفيلم، وأثناء حديث داليدا مع طبيبها المعالج بعد محاولة انتحارها الأولى إثر انتحار لويجي، يحاول الطبيب إقناعها بأنّها اختارت الحياة بطريقة ما، أو هزمت الموت. تجيبه أنّ الموت هو الذي لم يردها. حياة داليدا تراجيدية بامتياز، والمخرجة تصنع منها بطلة تسير بثبات نحو حتفها، مسكونة بميلانكوليا لا شفاء منها، وبشعورها بالذنب تجاه الرجال الذين تحمّل نفسها مسؤولية موتهم، بدايةً بأبيها الذي تمنت موته بعدما عاد من المعتقل مضطرباً وعنيفاً كما تخبر الطبيب، وبقية عشاقها الذين انتحروا واحداً تلو الآخر. لعل ما تبرع به المخرجة سينمائياً، هو نسج إيقاع مشيتها الثابتة نحو النهاية منذ البداية، وتلك الميلانكوليا التي تسكنها، وتظهر في جسد الممثلة الإيطالية سفيفا ألفيتي التي أدت الدور، وتعابير وجهها.

هذا إلى جانب اللغة السينمائية التي تضاعف من أثرها عبر اللقطات التي تكرس جسد الممثلة كمرآة لعالم داخلي يبقى غامضاً من خلال الفيلم سواء في سكونه الحذر الذي ينبئ دائماً بكارثة مرتقبة كما في مشهد البداية، أو في صخبه المتفجر كما حين تؤدي أغنياتها. أكثر من ذلك، لا تبدو داليدا متجهة إلى حتفها المنتظر، بل تبدو حياتها هي حتفها، إلى درجة يبدو انتحارها مفهوماً، فلا تجد وسيلة أخرى للهروب من الموت سوى الموت.

صنعت المخرجة بطلة تسير
بثبات نحو حتفها، مسكونة بميلانكوليا لا شفاء منها


سيرة داليدا تتماهى في السرد مع مجموعة من أغانيها المعروفة التي ـــ بحسب الفيلم ــ تتماهى مع تجاربها الشخصية. مثلاً، أغنية «كان قد بلغ الثمانية عشر» تروي علاقة جمعت داليدا في الواقع بشاب أصغر منها وانتهت بحمل داليدا منه ثم قرارها بالإجهاض، مما جعلها عاجزة عن الحمل من جديد. تبدو خفة الأغنية رهيبة، كما ما تبقى من أغانٍ مقارنةً بالواقع المستوحاة منه. تعتمد المخرجة في سرد سيرة داليدا بشكل أساسي على الرجال الذين أحبتهم وموسيقاها التي لا تنفصل عنهم أيضاً. تقدم نموذجاً قد يبدو شديد التطابق لما قد يعرفه الجميع عن حياة داليدا أو الأحداث المأسوية التي طبعت حياتها. في تركيزها على تقديم داليدا من خلال علاقاتها حصراً، تقارب ـ للمفارقة ـ نظرة الفيلم الذكورية، إذ تختار تقديم داليدا من خلال الرجال الذين أحبتهم، وأغانيها التي يبرزها الشريط هي أيضاً امتداد لتلك القصص التي عاشتها معهم. حتى انتحارها، ليس سوى تتمة لتلك الانتحارات التي سبقته. لا نستطيع تبيان علاقة داليدا بالموسيقى التي هي شغفها الأساسي بطريقة ملموسة أو معزولة عما تبقى. ذلك لا ينفي أثر كل تلك العلاقات وتأثيرها في حياتها، لكن لكي يكون بإمكان فنانة مثل داليدا أن تقدم كل هذا النتاج الموسيقي ـ رغم كل ما عايشته ـ فالعلاقة الفعلية الأهم في حياتها كانت مع الموسيقى. تلك العلاقة يبرزها الفيلم كشيء ثانوي لا أساسي. تظهر داليدا في الفيلم إلى حد ما كمرآة لكل القصص التي عاشتها وتشابه بعضها في مأساويتها، واضطراب الرجال الذين أحبتهم وكلهم قضوا انتحاراً. لكن إذا عكسنا المرآة، فهي القصص التي تعكس شخصية بطلتها. عبر كل رجل أحبته، أرادت داليدا أن تنقذ نفسها. الفيلم محبوك بعناية، وكذلك التراجيديا التي تمثلها حياة داليدا، لكنها عناية محكمة إلى درجة أنها لا تفسح مجالاً لأي هفوة أو فوضى أو مشهد في عبثيته قد يقارب حياة فعلية. شخصية داليدا كما تظهر لنا من خلال المقابلات المصورة بضحكتها الساخرة وعينيها الكثيفتين والحنكة الذكية التي نلمسها في أجوبتها، هي أكثر ازداوجية وتركيباً مما يعرضه الفيلم. رغم أنّ الممثلة سفيفا ألفيتي تتقمص داليدا بحرفة في تفاصيل لهجتها وأسلوب كلامها وأدائها على المسرح، إلا أنّها تبرز من خلال السيناريو فقط كمؤدية أو متلقية لسلسلة الأحداث التراجيدية التي تمثلها حياتها بعكس داليدا الفعلية كما يبان من أحاديثها حين تخوض في التحليل الذاتي. مثلاً، تتحدث داليدا في مقابلة أجريت معها عن المستقبل، فتقول «المستقبل ليس مجهولاً. من الممكن توقعه تقريباً، إذا لم نتحرر من الماضي، فالأشياء تكرر نفسها. وإذا تحررت تماماً من الماضي، عندها فقط سيكون هناك مستقبل، لكن حينها سأجهل ماهيته».

* «داليدا»: صالات «أمبير» (1269)