تدور الكاميرا على شاطئ المتوسّط. في السفن، وفي أحواض السباحة، وعلى الرمال تستلقي حوريات بدينات ويصطف جنود بقبعات زرقاء. اللون الأزرق في الصور كثيف ومتوقّعٌ في سلسلة نيك هانس، لكنه يختفي أحياناً أمام الميثولوجيا المعاصرة الوافدة إليه.
يلتقط المصوّر البلجيكي السرديات البشرية التي تفيض بها شواطئ حوالى 20 بلداً متوسطياً بين عامي 2010 و2011. لا تبتعد عدسته عن التناقضات التي تزخر بها البحار، والفروقات الهائلة بين إسبانيا وتركيا والناقورة وغزة وليبيا وموناكو واليونان. ورغم الألوان الحادّة للصور، يصير البحر حدوداً بين البلدان.

العاصمة اللبنانية حاضرة في «قصب» لارا تابت، و Beirut Nocturne لجوليو ريموندي، و«العودة» لبلال طربيه
يفيض بالحمولات التي يرميها الناس على كاهله: السياحة، والصناعة والاستجمام، والتجارة والعمران والسياحة الجنسية وطبعاً السياسة والمهن الصغيرة التي تنمو وتستقر على الرمال. كأنها توثيق انتروبولوجي لأهل البحر المتوسط من خلال أفعالهم وممارساتهم اليومية. قد تكون هذه السلسلة الفوتوغرافية fake sirens and real shipwrecks هي التصوّر البصري الأوّل والحرفي لمهرجان «فوتوميد 4» (مهرجان التصوير الفوتوغرافي المتوسطي) الذي تستضيفه بيروت حتى 8 شباط (فبراير). وقد تكون صورة الدرابزين المعدني الذي ينتصب وسط البحر هي كلّ ما يحاول المهرجان الفرنسي السنوي تفاديه، عبر حرص القائمين على تظهير صورة «إيجابية» عن الشرق الأوسط. في فضاءات عدة من العاصمة، يقدّم «فوتوميد» صوراً «نظيفة»، معفاة مما يحصل فعلياً في جزء من البحر المتوسّط وشواطئه التي شهدت أكبر مآسي التهجير في القرن الواحد والعشرين. مقابل هذا التغييب، تجتاح عدسات 14 مصوّراً البحر الأبيض المتوسط من زوايا مختلفة.
هذه السنة، تحتفي الدورة بالسينما الإيطالية وأحد أكبر معلميها ميكلانجلو أنطونيوني، وببيروت، وبشاعرية الزمن والعمارة، وتوجّه تحية إلى المصوّر الفرنسي الراحل مارك ريبو. هناك صور تصب في إشكاليات أخرى، وتتراوح بين التوثيق، والتجريب والصور الفنية والبورتريهات. هذه حصيلة «فوتوميد بيروت»، الذي يستعيد الماضي من خلال معلميه أمام التجارب الجديدة لجيل جديد من فوتوغرافيي المتوسط.
صور «فوتوميد» معفاة من السياسة، باستثناء صور جورج عوده. يرى المصوّر اللبناني اللاجئين وشتاتهم بعين مختلفة. وإذا أمكن توصيف «دروب بلا حوافّ»، فإنه يقوم بالدرجة الأولى على مقاربة اللجوء من منطلق جسدي وفيسيولوجي. يرسم عوده مسارات عدّة لعلاقة أجسادهم بالفضاء المادّي الجديد، بعد وفودهم إليه قسراً. تتضمن السلسلة صوراً خارجية وعامّة للمدينة، ولنصبها الإسمنتية الصلفة، أي الخلفية التي تتّكئ عليها أجساد العمال البالغين والأطفال. يختبر عوده قدرة المدينة على احتواء أجسادهم العارية، من دون التنازل عن تظهير جمالية هذه الأجساد وحميميتها.

بيروت وباريس هما مسرح دانيال عربيد ومجموعتها الفوتوغرافية «فتيات
إكزوتيك»
يحاول التقاط أشكال علاقتهم البديلة مع المدينة، التي تتمثل في التجمعات الضيقة داخل الجدران. يظهّرهم كأيقونات بما يشبه التعويض المادي عن الانتماء المستحيل لبيروت. العاصمة اللبنانية حاضرة بشكل مباشر في «قصب» لارا تابت، وBeirut Nocturne لجوليو ريموندي، و«العودة» لبلال طربيه. توغل مجموعة لارا تابت المغبّشة عميقاً في إشكاليات بيروت المدينية، ملامسة وظائف الفوتوغرافيا نفسها بين التوثيق وتمثيل المشهد. تبتعد الفوتوغرافية اللبنانية عن الطرح المائع الذي يذوب أغلب الأحيان في صورة واحدة وجاهزة للعاصمة اللبنانية. نحن أمام مشاهد لإحدى الفسحات الجنسية في بيروت، التي تتحوّل في الليل إلى مأوى لأجساد شبحية، تتوافد إليها لتعلن عن ممارساتها الجنسية. الفضاء المكشوف مع صور الأعضاء الجنسية والأجساد الهائمة تمنح الصور غرائبية داكنة، خصوصاً حين تصبح تابت جزءاً منها، مبتعدة عن فعل التلصص التوثيقي للمصوّر. جوليو ريموندي يبدو مأخوذاً بالوجه الليلي لبيروت، بعيداً عن صخبها السياحي وضجيج حاناتها. مجموعته Beirut Nocturne هي سلسلة مأخوذة من كتابه بالعنوان نفسه (2010) مرفق بنصوص واشعار للسينمائي اللبناني الراحل كريستيان غازي. صوره بالأبيض والأسود غنية بالظلال والوجوه المهمشة ضمن أجواء من العزلة والوحدة. يلتقط صوراً حميمة لزوايا خالية تماماً نكاد نصدق فيها أن بيروت مدينة مهجورة، إذ تشغلها مساحة من البطء والحركة الضئيلة للوجوه والتفاصيل والشرفات الفارغة التي تلتقطها عدسته. بعكس جوليو الذي تستحضر لقطاته وجهاً مخفياً للمدينة، يلتقط بلال طربيه في «العودة» المدينة الملموسة من الخارج ومن داخل بيوتها وسمائها وعماراتها ووجوه أهلها بالأبيض والأسود. بيروت وباريس هما مسرح دانيال عربيد ومجموعتها الفوتوغرافية «فتيات إكزوتيك». حياة الأندرغراوند الصاخبة تخرج إلينا بصور متوترة وهائمة، تشغلها أضواء ووجوه قلقة. أبطالها أطياف مهووسة بالأوشام، تشرب، تدخن، تقبل، وتسهر حتى آخر الليل في مدن حائرة. هذه حصيلة دانيال عربيد وصورها بكادرات متحرّكة لا تبتعد عن أجواء فيلمها الأخير «لا أخاف شيئاً» الذي تظهر بطلته في جزء من صور تشبه الومضات الخاطفة، في محاكاة للذاكرة وعبثيتها.

من ناحية أخرى، يحتفي المهرجان بالسينما الإيطالية. سيرجيو ستريتزي أحد هؤلاء المعلمين الذي قبعوا وراء كاميرا إيتوري سكولا وميكلانجلو أنطونيوني، ملتقطاً صوراً لأهم الأفلام من الخمسينيات حتى وفاته عام 2004. مجموعته On set with Antonioni التي نراها في «فوتوميد»، تؤرّخ للحظات نادرة من أعظم أفلام القرن العشرين تحمل توقيع أنطونيوني. كواليس الفيلم كما يراها ستريتزي تصنع فيلماً آخر. تتصدّر صورته لمونيكا فيتي من «الصحراء الحمراء» (1964) ملصق هذه الدورة، بينما تتضمن المجموعة المعروضة تلك اللقطات الصامتة لمارسيلو ماستروياني وجان مورو في «لا نوتي» (1960)، وآلان ديلون في «الكسوف» (1962). مقابل سلسلة ستريتزي تتوزّع في «بنك بيبلوس» مجموعة Mediterranean Suite لريشار دوما. يحاول المصور الفرنسي أن يلتقط لموديلاته صوراً شخصية تعبر عن حالتها الثابتة، أبعد من لحظوية الوضعية.

يقدّم وسيم غزلاني صورة تونس كما يراها هو، مهشماً الصورة السياحية المبالغة أمام الواقع
هكذا اختار بورتريهات لسينمائيين وممثلين متوسطيين بالأبيض والأسود، التقط معظمها في «مهرجان كان السينمائي» لبيدرو ألمودوفار، وأنطونيوني، وناني موريتي وغيرهم. المحطة السينمائية الثالثة هي صور آلان فليشر. يأخذنا الناقد والمخرج الفرنسي إلى رحلة سينمائية داخل زواريب روما. جعل فليشر من جدران المدينة وزواياها شاشات لمشاهد من أفلام صورت فيها لأنطونيوني وفيلليني ووايلر. اختار زوايا تناسب مشاهد الأفلام لتبدو كما لو أنها الفضاء الأساسي لها. وفيما شكلت مشاهد الأفلام ثقوباً حلمية داخل جدران روما، تشكّل المجموعات الثلاث رحلات أخرى للهرب من فضاء «بنك بيبلوس» الذي اختاره المنظمون لعرضها!
يوجّه «فوتوميد» هذه السنة تحيّة إلى مارك ريبو (1923 ــ 2016) الذي غادرنا العام الماضي. المصوّر الفرنسي الذي كان أول الملتحقين بوكالة «ماغنوم» بعد دعوة هنري بروسون، وجد وجهته الفوتوغرافية لدى الأرواح العادية: مهمشي الحروب، ومهمشي الأنظمة والفقر. قام بجولات عدّة إلى الشرق، وآسيا وأفريقيا. غطى حرب الفييتنام، وحرب الجزائر، ووثق للاتحاد السوفياتي. لكن صورته تبتعد عن الحروب بوجهها المباشر، فهو «مهووس بالتقاط اللحظات المكثّفة للحياة» وفق تعبيره. مجموعته بالأبيض والأسود، باستثناء صورة واحدة ملوّنة، في «المعهد الفرنسي في بيروت»، تغطي رحلاته إلى تركيا والمغرب وكرواتيا وتقدّم سجلات مقربة ليوميات الناس في تلك البقع. يقدّم وسيم غزلاني «بطاقات بريدية من تونس». في نظرة سريعة عن بعد، يشعر المتفرّج أن صوره بخلفية واحدة. يحافظ المصوّر التونسي الشاب على مساحة فارغة موحّدة في الجزء الأعلى من صوره، ستبدو هي التقسيم الشكلي المشترك لكل المجموعة، بالإضافة إلى إطارها المربّع. أما بالنسبة إلى المضمون، فيقدّم غزلاني أيقوناته الخاصّة التي تستحق أن ترسل ببطاقة بريدية، وهي غير الأمكنة والأشياء الجماهيرية والسياحيّة. ابريق ماء وأرجوحة فارغة وفتيات يجتزن الشارع وأمكنة وأغراض هامشية جداً هي صورة تونس كما يراها غزلاني، مهشماً الصورة السياحية المبالغة أمام الواقع. هناك صور لكريستين علوي، والدة الفنانة الراحلة ليلى العلوي التي رحلت قبل عامين. تغطي الصور لحظات متعددة في نيويورك والمغرب من أرشيفها الشخصي الذي ظل بلا عرض طوال تلك الفترة.


الوقت يشغل مساحة وافرة في مجموعتي «كيف يتلاشى الوقت» للإسباني فيران فريكسا، و«في تحدي الحجر» للسويسرية نيكول هرتزوغ ــ فيري. تخلو مجموعة فريكسا من أي وجود بشري، إذ يكمن هاجسها في التقاط الوقت ومروره وآثاره على الأشياء والمباني. السكون الكبير يصوره بعدسة تلتقط الشبابيك المكسرة، والمباني الفارغة والحشائش في الممرات، والمقاعد المتروكة متكئاً على أسلوب متفرد في تظهير الضوء والظلال. أما نيكول هرتزوغ ــ فيري فتقودنا في رحلة بصرية إلى جبال لبنان مسائلة قدرة البلاد على إنجاز حضارة عمرانية حديثة أمام تراث الأحجار الكبيرة التي تحمل حضارات متتالية نراها في المعالم التراثية القديمة مقابل العمران الجديد في الخلفية.

«فوتوميد بيروت 4»: حتى 8 شباط (فبراير)ــ D-Beirut، وStation، و«المعهد الفرنسي في بيروت»، و«فندق لو غراي»، و«بنك بيبلوس».
http://photomedliban.com




جوائز وغاليريهات

بعد بضعة أيام على افتتاحه، أعلن منظمو «فوتوميد» عن أسماء الرابحين في مسابقة التصوير. نالت سيرين فتوح الجائزة الأولى وحازت صور نصري الصايغ على الجائزة الثانية. وللسنة الثانية على التوالي، دعا «فوتوميد» غاليريهات لبنانية للمشاركة في المهرجان عبر صور فنانينها وعدساتهم. هذا العام أيضاً، عرضت «غاليري تانيت» صوراً للبناني جيلبير الحاج، و«غاليري أجيال» صوراً لكلارا أبي نادر، وأعادتنا «أليس مغبغب» إلى أرشيف الحرب الأهلية اللبنانية وشعارات جدرانها بعدسة ماريا شختورة. «غاليري جانين ربيز» استضافت صوراً لكل من رانيا مطر وفرانسوا سارغولوغو فيما عرضت غاليري The alternative صوراً طبيعية برية لميشال زوغزوغي. وكما كل سنة، غابت الترجمات العربية للنصوص المرفقة بالصور، واقتصرت على اللغتين الإنكليزية والفرنسية.