هل ضاقت الأرض بما رحبت على أهل الفن في المغرب، حتى باتوا يهددون بالخروج من البلاد وقطع كل صلة فنية تربطهم بها؟ هذا ما حدث أخيراً للمخرج والممثل المغربي شفيق السحيمي (1948) الذي خاطب الملك في تدوينة عرفت انتشاراً كبيراً على مواقع التواصل، ويبدو أن سببها الأول هو ما يشكو منه من «تضييق حول أعماله وابتزاز من لدن فيصل العرايشي المسؤول الأول عن قطاع الإذاعة والتلفزيون في المغرب»، إذ كتب: «إلى محمد السادس ملك المغرب، قرّرتُ اللجوء إلى الجزائر لأمارس حقي في الإبداع، وسأعمل كل ما يتيح لي منع بثّ أي صورة ولو واحدة من أعمالي في تلفزة العرايشي من الآن فصاعداً. يريدون أعمال شفيق السحيمي لا الشخص». ويبدو أن تدوينة السحيمي كُتبت بكثير من التوتر واليأس، فهو يدرك ما معنى أن يتوجه بخطاب كهذا لرئيس البلاد، ملمّحاً إلى اختياره الجزائر كبلد للإقامة بدل المغرب، كأنما يعزف بذلك على وتر العلاقات السياسية المتذبذبة بين البلدين.
وأضاف السحيمي مخاطباً الملك على فايسبوك: «بلغني أن مدير قطبكم العمومي، بعدما تآمر على إبعادي من المغرب، سيشرع في إتمام تصوير مسلسلي «شوك السدرة» وبدوني وبدون احترام العقد الذي بيني وبينه، مصراً بذلك على هضم حقوقي المادية والمعنوية».
وكان السحيمي قد اتهم سابقاً فيصل العرايشي الرئيس المدير العام للشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة المغربية بتلقي رشاوى وعمولات قد تبلغ نسبة 30 في المئة من ميزانية المسلسلات مقابل المصادقة على إنجازها. كما نشر عدداً من الفيديوهات على يوتيوب يفضح فيها ما سماه «الفساد المالي» في مؤسسة التلفزة المغربية. وسبق له أيضاً أن أحدث ضجة في وسط الدرك الملكي حين اتهم مسؤولاً في الجهاز - يشتغل أيضاً منتجاً فنياً بشكل خارق للقانون - بسرقة عتاد وظيفي.
وليست هذه المرة الأولى التي يخرج فيها السحيمي باحتجاج كهذا، فقد سبق له قبل ثلاث سنوات أن أعلن عن اعتزاله الفن نهائياً لأسباب متداخلة منها «التضييق على حرية المواطن» حسب تعبيره، ومنع بعض أعماله. كما أذاع بداية الصيف الماضي خبر مغادرته المغرب للعيش في فرنسا، غير أن الجهات التي ظل الرجل يتصارع معها في الفترة الأخيرة واجهته بتهم متنوعة، منها التوقيع على شيكات بدون رصيد، وخيانة الأمانة، وعدم أداء المستحقات للعاملين معه. وقد نشر السحيمي بعدها تسجيلات تدفع عنه التهم وتشرح الكثير من التفاصيل المرتبطة بقضيته الشائكة.
على أي حال، للسحيمي تاريخ شخصي يختلف عن معظم فناني المغرب، فالرجل بدأ مناضلاً، بل عضواً نشطاً في المقاومة المسلحة. فور إنهاء دراسته الثانوية، التحق بحركة فتح الفلسطينية ثم الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، وشارك في معارك «أيلول الأسود» في الأردن ولبنان ضد إسرائيل بين 1968 و1971.

حاولت أعماله تحقيق ذلك التقاطع بين الثقافات العالمية والوسط الاجتماعي المغربي
بعد تلك المرحلة، سيسافر إلى باريس ليواصل الدراسة في المعهد العالي للفنون المسرحية، وينهي مشواره التعليمي هناك بالحصول على الدكتوراه نهاية الثمانينيات حول هوية المسرح المغربي. وستتوزع مهامه بين التدريس في جامعة باريس وجامعة محمد الخامس وإدارة «المعهد العالي للفن الدرامي والتنشيط الثقافي» في الرباط.
مع مطلع التسعينيات، غادر المغرب لمزاولة نشاطه المسرحي تدريساً وتأليفاً، ثم سيعود مع نهاية العقد ليكوّن فرقة «لام ألف» المسرحية تقاطعاً مع المجلة التحررية الشهيرة التي أسستها زكية داوود خلال الستينيات وحملت الاسم نفسه.
لم يتعرف المغاربة إلى السحيمي ممثلاً ومخرجاً، إلا مع بداية الألفية الجديدة حين قدم للمسرح المغربي «الوجه والقفا»، و«الشرادي»، و«المنزه»، و«عوم بحرك». إلا أن شهرته الحقيقية ستكون مع مسلسلاته التلفزيونية التي ستحقق نسب مشاهدة قد تكون هي الأعلى في تاريخ الدراما المغربية.
كان رهان السحيمي في أعماله التلفزيونية والمسرحية، تحقيق ذلك التقاطع بين الثقافات العالمية والوسط الاجتماعي المغربي، كأنما كان يريد أن يثبت أن مشاكل وصعوبات وتشعبات الحياة الاجتماعية هي ذاتها تقريباً لدى معظم الشعوب بغض الطرف عن الأبعاد الإثنية والدينية والسياقات التاريخية. لذلك، جاءت أعماله التلفزيونية مقتبسة من أعمال روائية بصمت تاريخ الأدب العالمي: «العين والمطفية» عن رواية للفرنسي مارسيل بانيول، «وجع التراب» عن رواية «الأرض» لإميل زولا، «صيف بلعمان» و«تريكة البطاش» عن «الإخوة كارامازوف» لدوستويفسكي، «شوك السدرة» عن «البؤساء» لفيكتور هوغو. الأمر ذاته ينطبق على مسرحياته التي كانت اقتباساً لأعمال كتّاب من أمثال تشيخوف وبريخت. غاص بأعماله الدرامية في عمق الشخصية المغربية سواء في الأرياف أو المدن، وعالج تيمات الصراع والمكر والتحولات السيكولوجية والسوسيولوجية بروح فنية جديدة كشف فيها عن موهبة كبيرة في الإخراج. كما فاجأ المغاربة بأدواره المميزة في الأعمال التي قدمها، خصوصاً شخصية «سيدي احمد» في سلسلة «وجع التراب» التي تقمص فيها السحيمي دور شيخ قروي تتقاذفه مشاكل الوسط الذي يعيش فيه.
التوتر الذي تعرفه تلك العلاقة القائمة بين المخرج شفيق السحيمي والجهات الرسمية المعنية بعرض الإنتاج الفني الوطني، ستترتب عنها خسائر عديدة لعل أبرزها حرمان الجمهور المغربي والمغاربي من أعمال تلفزيونية اجتماعية مميزة تعودت على متابعتها شريحة واسعة من محبي الدراما.