يعود المخرج الإنكليزي الثمانيني إلى العاصمة السورية ليقدّم أحدث أعماله: «فاروم، فاروم». العرض أراده «بحثاً مشهديّاً» قائماً على توليفة نصوص لعمالقة المسرح في النصف الأول من القرن العشرين. مانيفستو متأخّر أم وصيّة مسرحيّة؟
دمشق ـــ أسامة غنم
للمرة الثانية، يعود بيتر بروك إلى «دمشق عاصمة الثقافة العربية 2008». بعد «المفتش الكبير» المأخوذ عن رواية دوستويفسكي «الإخوة كارامازوف»، ها هو «المعهد العالي للفنون المسرحية» يستضيف آخر إبداعاته: «فاروم فاروم» (لماذا؟ لماذا؟) عرضه الثاني باللغة الألمانية مع الممثلة السويسرية ميريام غولدشميت.
قد يسأل بعضهم لماذا يقدّم المخرج الإنكليزي الثمانيني «بحثاً مسرحياً» كما يعنونه، لا مسرحية كاملة؟ لماذا هذا الفضاء الفارغ إلا من ميريام وفرانشيسكو وآلته الموسيقية الغامضة؟ لماذا يتكرر السؤال مرتين: لماذا؟ لماذا؟
الجواب سيكتشفه الجمهور في عرض له بنية الـ«هايكو»، شذرات الشعر الياباني المقتصد حتى جوهر الرفاهة. ينتقي بروك نصوصاً لعمالقة المسرح في النصف الأول من القرن العشرين، أو في القرون الغابرة وهم: الفرنسيان أنطونان آرتو وشارل دولان، الروسي مايرهولد، الياباني موتوكيو، ورفيقا حياة بروك: الإنكليزيان إدوارد غوردون كريغ الذي التقاه بروك في شبابه ووليم شكسبير، أي الهواء الذي تنفّسه المعلّم طوال حياته. هذا العرض هو خلاصة رؤية بروك لفن الإخراج بعد مسيرة 60 عاماً في تاريخ هذا الفن، كرّسته مرجعاً أساسيّاً من مراجع المسرح العالمي.
«لماذا؟ لماذا؟» عنوان بمستويات غنية ومركّبة، من خلاله يطرح بروك مع أحد آباء الإخراج المسرحي والسينوغرافيا الحديثة، إدوارد غوردون كريغ سؤالاً جوهرياً: «الأمر كله يتعلّق بما يبحث عنه الإنسان في الخشبة: أمسرح أم أدب؟ إذا كنت تبحث عن وجبة أدبية لذيذة، فيفضّل أن تعترف بأنك أخطأت العنوان». ثم يصف موت الممثل في المسرح الصيني: «كان يرمي نفسه في الهواء، وبعد هذه الحركة البهلوانية فقط، كان يسمح لنفسه بالسقوط على خشبة المسرح بحركة لولبية بطيئة... لا شيء سوى كومة من الحرير».
وصف هذا الموت المؤسلب، والمناقض لكل ما راكمته مناهج التمثيل الواقعي النفسي في الغرب من ستانيسلافسكي في السنوات الثلاثين الأولى في القرن العشرين، وصولاً إلى آل باتشينو ودانييل داي لويس الآن... يغدو نوعاً من التأكيد على المسرح فنّاً أبدياً للعب. وفي «بحثه» هذا، يتوقف بروك مع الروسي فسيفولد مايرهولد، ابن الثورة البولشفية ومعلن الحرب على الجبهة المسرحية، بعيد ثورة أكتوبر التي سرعان ما التهمته، إذ يصيح: «أكشن: إنّها الحياة الحديثة التي تحرق النظام البائد، تعيش الثورة! يعيش ستالين!». ويتوقّف المعلّم الإنكليزي مع شارل دولان في فترة بين الحربين، إذ يقول في حداثته المسرحيّة: «كل ما أعرفه، تقريباً، تعلمته في مدرسة الميلودراما». وبين المخرجين، نرى خريطة فهم العالم بين شرق أوروبا وغربها في النصف الأول من القرن العشرين.
ويتجلّى بروك في اللحظة الشاعرية مرّتين. الأولى مع «بَك» الجنّي في مسرحية «حلم ليلة منتصف صيف»، إذ تغدو كلمات الشخصيّة الشكسبيريّة الشهيرة عن السحر، تعريفاً لفن الإخراج المسرحي. ثم هناك المشهد الشهير في مسرحية «الملك لير»، حين يطلب غلوستر المسمول العينين من ابنه إدوارد المتنكر أن يقوده إلى أعلى جرف لينتحر. في تلك اللحظة، نرى الإخراج باعتباره كشفاً لما هو مسرحي في جوهره ضمن الحياة.
بروك أحد الممثلين، القلائل الآن، لجيل عاش حداثة القرن العشرين المزدوجة وهم: مايرهولد وكريغ ممثلا حداثة نهاية الثلث الأول من القرن العشرين، وآرتو المعاد اكتشافه في الستينيات في الحداثة الثانية التي كان بروك أحد أكبر فاعليها. لذا، يسمح المعلّم لنفسه بأن يقدم أمثولة عن المسرح ومعناه... ثم ينهيها بسؤال. وقد يكون هذا العرض واحداً من آخر إنتاجات هذا المعلم مع عصر ينتهي، تحمله قسمات ميريام غولدشميت الأفريقية الآسرة، وصوتها الرخيم بالألمانية. إذ تعلن مع مايرهولد المتوتر: «المسرح سلاح خطير، يفضل ألا يلعب الإنسان به»... قبل أن تعود فتسأل مع المعلم الياباني زيامي: «هل هناك بشر بلا عاطفة؟ إذا كان هناك إنسان بلا عاطفة فما الذي يجعل منه إنساناً؟».


9:00 مساء: من 17 إلى 20 أيلول (سبتمبر) الحالي ــــ مسرح «فواز الساجر»، المعهد العالي للفنون المسرحية، دمشق ــــ www.damascus.org.sy