أراده صاحبه فيلماً «عن القمع» في كل الأزمنة والعصور، فإذا به يكثر من المؤثرات، محاولاً الافلات من الرمال المتحرّكة للواقع السياسي اللبناني
بيار أبي صعب
إذا كان «سكّر بنات»، فيلم نادين لبكي، بدا لنا في حينه «سكّر زيادة»... فإن فيلم سمير حبشي الجديد، يمكن أن نعتبره «دم زيادة»! لقد اختار العنف موضوعاً ووقوداً دراميّاً، واعتداءً شعوريّاً على المشاهد للتمكّن منه بأي ثمن. نادين لبكي راهنت على الحلاوة كي تغوي جمهورها، على بيروت الكارت بوستال ما بعد الحرب، وعذوبة الحياة رغم كل شيء. أما سمير حبشي في «دخان بلا نار»، أو «بيروت مدينة مفتوحة» حسب العنوان الأجنبي، فاختار الغوص في مناطق مؤلمة من الذاكرة الجماعيّة. صوّر الجحيم الكامن خلف واجهة «الإعمار»، في زمن السلام القسري منتصف التسعينيات: أيّام تحالف الوصاية السوريّة مع المشروع الحريري برعاية أميركيّة إذا شئنا أن نختصر الفيلم، فيما المجتمع الأهلي لم يتجاوز النمط العشائري.
لكنّ حبشي، مثل لبكي، جنح إلى الضبابيّة والتعميم، وإلى الاختزال في التعاطي مع واقع مركّب. لم يغامر في المضيّ أبعد من هذا الديكور الدموي، بل سمح لنفسه بمقاربات تاريخيّة وسياسيّة غير دقيقة، ثم أنقذ تلك الـ«راكورات الخاطئة» بنهاية غرائبيّة تطالبنا بالتعاطي مع الفيلم بصفته عملاً مجازياً لا يهتمّ بالتوثيق. لكن إلى أي مدى يسمح الراهن الحارق بهذا التجاوز الافتراضي؟ إنها إحدى نقاط الضعف الأساسيّة لدى هذا السينمائي اللافت الذي انتظرناه أكثر من خمسة عشر عاماً (منذ باكورته «الإعصار»، 1992). يفتح فيلمه بلقطات وثائقيّة من اتفاق الطائف، والمعارضة الشعبيّة حول ميشال عون... ثم يقفله على نهاية متخيّلة في عام 2017. وهذه القفزة من الواقعي إلى الغرائبي، من الأمس القريب بجراحه التي لم تلتئم، إلى الخاتمة العبثيّة التي تسلخنا عن السياق السياسي... لا يمكن التفاعل معها بسهولة. كما يصعب قبول فكرة موكب السفير الأميركي الذي يقتل العابرين على طريقه (الرقابة حذفت العلم الأميركي)، أو فكرة الانتقام العشائري من مرافقي السفير نفسه في شوارع بيروت، وينسب إلى... تنظيم القاعدة!
هذا الارتباك يحاول الأسلوب السينمائي تجاوزه، عبر مختلف المؤثرات: في السيناريو (القتيل الشاب مسجّى بين الندابات، فيما الأب بالكفيّة والعقال يحمل إليه طفله الذي ولد في تلك اللحظة). في المونتاج السريع الذي يربط الشريط الصوتي بين لقطاته بطريقة مبالغة. في تضخيم القمع والتعذيب. في استعمال فهمان وسيرين عبد النور. في شخصيّة خالد الحداد هذا المخرج المصري الذي يتدلّى من عنقه مفتاح النيل، ولا يفلت الكاميرا من يده (كما بطل فاروق بلّوفة في فيلم «نهلا»). بطله (خالد النبوي) جاء يصوّر في بيروت فيلماً «عن القمع في العالم العربي» (إلى أي مدى يمكن التحدث هنا عن «القمع» بالمعنى المتداول في مختلف الأنظمة العربيّة؟)، وإذا بالسنوات تمرّ وتتغيّر المعطيات، وهو على حاله، يعلّق مَشاهد السيناريو على جدران منزله، فنراها في فيلمنا نحن كما تخيّلها (تحيّة إلى سينما يوسف شاهين؟). المقارنة مع «زد» كوستا غافراس (عن القمع في أميركا اللاتينيّة) مبالغ فيها طبعاً، فالمخرج الفرنسي يعمل في سجلّ واقعي دقيق لا يحمل تلاعباً بالزمن والوقائع. والإحالة إلى روبرتو روسيليني صاحب «روما مدينة مفتوحة» يبقى عند حدود العنوان، إذ ليس هناك احتلال واضح هنا، ولا «ذئبة جريح» مثل آنا مانياني لمقاومته. هناك فقط هذا المخرج المصري الضائع بقصة حبّه (ديامون بوعبّود)، يطارد شهوده على القمع مثل حميد الذي انقلب مع «المخابرات» لا نعرف كيف ومتى (رودني الحداد). هناك أفلام في فيلم، وكلّها قابل للمشاهدة... إذ إن سمير حبشي يحكم السيطرة على مشاهده المصوّرة بعناية (ميلاد طوق). لكنّ الواقع الذي يخوض فيه أشبه بحقل شاسع من الرمال المتحرّكة التي تحدّ من حقل الرؤية. ينبغي بعض الوقت والكثير من النضج، للتمكّن من الإحاطة بتلك المرحلة الشائكة من تاريخ لبنان والمنطقة. في هذا السياق يمكن أن نفهم تحيّة الفيلم إلى مارون بغدادي.


«أمبير دون» (01/792123)، «أمبير ستارغيت» (08/813901)، «بلانيت أبراج» (01/292192)، «بلانيت الزوق» (09/221363)، سانت إيلي (04/406706)