كيف يمكن ريما خشيش أن تغنّي نثراً لعبّاس بيضون، بالتواطؤ مع ربيع مروّة، في معقل الفنون المعاصرة في بيروت؟ أحد أجرأ الابتكارات، منذ رقصت جورجيت جبارة على شعر أنسي الحاج في السبعينيات
بيار أبي صعب
مساء الأربعاء الماضي، في «مركز بيروت للفن»، بدا عبّاس بيضون قلقاً بعض الشيء، فالتجربة التي سيخضع لها الشاعر اللبناني ليست بالمألوفة تماماً. بل قل التجربة التي سنخضع لها جميعاً. لقد أتينا إلى ذلك الفضاء الخاص بالفنون المعاصرة، كمن يذهب إلى اجتماع سرّي لطائفة غامضة غير مرخّص لها. لم تحمل الدعوة أيّ تفاصيل عن البرنامج: «أمسية لريما خشيش مع ربيع مروّة». هذا كلّ شيء. طُلِبَ من الراغبين في الحضور إلى الموعد أن يحجزوا أماكنهم سلفاً، فنفدت البطاقات قبل يومين من الأمسية. ما يقارب 70 مشاهداً كان لهم امتياز الدخول إلى الأوديتوريوم الأليف الذي

شكل لولبي مفتوح قائم على التلاعب المقامي

صمّم ليحتضن أشكالاً من المحاضرات والعروض والبرفورمانس... فإذا به تلك الليلة يضيف إلى مؤهّلاته صفة «المختبر». نحن في عقر دار «الفنّ المعاصر». ولو لم يكن المكان موجوداً، لوجب اختراعه لاحتضان ذلك «المشروع» الذي خاض في غماره الفنّانان، كمن يرتمي في أحضان مغامرة غير مضمونة النتائج. كلا، ليست أمسية غنائيّة من النوع الذي عوّدتنا إياه فنّانة تجمع بين الإلمام العميق بالتراث الطربي الأصيل، والانفتاح على احتمالات الابتكار والتجديد (أدّت أغنيات بتوقيع ربيع: «كيفك يا حب»، «بيكفّيني»، «حفلة ترف»...). البرنامج الليلة أقرب إلى المبادرات التي ألفناها في عروض ربيع مروّة و«محاضراته» وتجهيزاته. ألم نقل إننا في رحاب الفنّ المعاصر؟ هذا ما حاولنا أن نقنع به عبّاس بيضون كي نهدّئ من روعه قليلاً. فالخبر الذي لا يعرفه المتجمهرون أمام باب الصالة ربّما، هو أن الثنائي اختار أن يلحّن قصيدة للشاعر المذكور، من عيون النثر، هي «بضع دقائق» (مجموعة « ب ب ب» ـــــ دار الساقي). «إنّه نصّ إخباري ليس فيه للوزن من أثر»، راح يردّد العمّ عبّاس عند باب الـBAC، كأنّه يتمسّك بتعويذة تردّ عنه بلاء المفاجآت السيّئة. لنتعاط إذاً مع العمل بصفته «عرضاً أدائيّاً»... تجريباً لا علاقة له بالـ«أغنية»، يقف على سنوات ضوئيّة من «يا علي» مثلاً، قصيدة بيضون القديمة التي أداها ذات يوم مرسيل خليفة!وكانت اللحظة الصفر. الإصغاء بلغ ذروته في القاعة الصغيرة. ريما تقدّم الأمسية، ربيع يبدأ بالعزف على الفلوت. وتسحبنا الفنانة الشابة إلى عمق الشعر البيضوني، بما هو احتفال باليومي وعاديّته. نفكّر في التجويد القرآني. شغْل مرهف وذكي على اللغة وتواصل المعاني، يعطيها بعداً ثالثاً، في خدمة الرؤية العبثيّة لقصيدة تشبه صاحبها إلى حدّ بعيد: «أصِلُ على الموعد دائماً لكنّ الوقتَ هو الذي يتأخّر، وأقول إن هناك بضع دقائق بيني وبين الواقع. بضعُ دقائق بيني وبين الوقت...».
كاميليا جبران في آخر أسطواناتها «وميض» أخذت قصيدة النثر إلى مناطق لحنيّة غريبة ومفاجئة، لكنّها احتوتها في شكل «الأغنية». هنا، نحن أمام مناخات نغميّة مألوفة، لكنّ المغاير هو القالب. شكل لولبي مفتوح، قائم على التلاعب المقامي والأرابيسك، وأداء ينجح في نقل روح القصيدة، والتعبير عن الخلل الذاتي والوجودي بين المبدع والعالم، بسبب تفاوت طفيف لا يمكن إصلاحه على الأرجح. البنية الدائريّة، القائمة على مبدأ الارتجال والإعادة، عوّضت عن غياب الإيقاع بانسيابية نغميّة على صلة أحياناً بالترتيل والأوراتوريو. وتجلّى «التفاوت» (موضوع القصيدة) أيضاً، في الحوار بين مقطوعات ربيع مروّة على آلة الفلوت التي يغيب عنها ربع الصوت، وأداء ريما الغارق في شرقيّته وتلاوينه.
تجربة صعبة؟ ربّما. لكنّ دخولها قد يكون سهلاً وممتعاً. محاولة خصبة ـــــ نتمنّى أن يعاد تقديمها للجمهور ـــــ قائمة على التجريب المعاصر في الأشكال والقوالب والأنواع الإبداعيّة. من أجرأ الابتكارات التي شهدتها بيروت، ربّما، منذ رقصت جورجيت جبارة، في السبعينيّات، على شعر أنسي الحاج.


تفكيك طربي

الجزء الثاني من أمسية ريما خشيش لم يكن أقلّ جرأة من سابقه. لقد مزجت، في عمل واحد، بين جمل من أغنيات تشترك في المقام (البياتي)، والفترة الزمنيّة (1926 ـــــ 1928)، والقالب التقليدي (القصيدة): «ما لي فتنت» (ع. الجارم/ أ. صبري النجريدي)، «رُدّتِ الروح» (شوقي/ عبد الوهاب)، «يا جارة الوادي» (شوقي/ عبد الوهاب)، «أراك عصيّ الدمع» (الحمداني/ عبده الحامولي). النتيجة «باتشوورك» لا يعبأ بالمعنى، هو بين التمرين التفكيكي والتشريح الطربي. «خضت التجربة لمتعتي الخاصة»، تقول. وتستدرك: «لكنني كنت أتصوّر سليم سحاب بين الحضور يتساءل: ماذا جرى لتلميذتي النجيبة؟».