فلسطين | آه، ها هو ألبوم الصُّور بين العديدِ من الألعاب في الخَيمة، شام ابنة أختي لا تكفُّ عن العبث بأغراضي، عادةً لا أحمل معي عند زيارتها سوى كتبي الجامعية وبعض الروايات، لا بدّ أنها لاحظت أن شيئاً زائداً أحضرتهُ معي هذه المرة، والصّور عند الأطفال في منزلة القصص وحكايات الجدّة. حين جلست إليها كان علي أن أسردَ قصّة واحدة على الأقل لكل صورة تسألني عنها.
الألبوم ليس ملكيّة خاصّة، لا يحتوي على صوري أو صور أحد من أفراد العائلة، بذلت جهداً خرافياً في تجميعها وأغلبها من الإنترنت، قمت بطباعتها ورقيّاً، والسبب بسيط جداً لكنّه ضروري، لطالما شعرت أن جذوري تعود إلى مكانٍ آخر، حميمي وعاصف، كنت أجد نفسي ابناً للبحر أكثر من الجبال، ولدتني أمّي تحت شجرة زيتون، بعدما قذفت بي إلى الدنيا، وقفت على رجليها وعانقت شجرة الزيتون من جديد وأكملت قطافها. أعرف كل هذا، فما فتئت أمّي تذكّرني، لكن من أين لي مزاج البحر بهدوئه وتقلبات أحواله، وسحره وغوايته؟ تعمّقت شكوكي حين أوقفني ذات يوم رجلٌ غريب في شارع ركب في رام الله، تأمّل ملامحي ونظر إلي طويلاً، ثم قال: «أهلاً بابن العم». جلسنا في مقهى قريب وتحدّثنا، قال لي أنه من بيسان وهاجرت أسرته أثناء النكبة، ويسكن الآن في مخيم الجلزون قرب رام الله، ثم آخر التقيتهُ بالصدفة على الفيسبوك وردد الجملة ذاتها «أهلاً بابن العم». قال لي إنه من قضاء حيفا وهُجّرت أسرته بعد 48 إلى الأردن.
وألبوم الصّور كان لافتةَ احتجاجٍ وغضب على زميلةٍ لي في الجامعة، أردْتُّ أن أريها بلادنا كم كانت جميلة قبل أن يأتيها القتلة واللصوص من كل أصقاع الدنيا، قالت «حيفا، وعكّا، ويافا، والنّاصرة، جميلة وساحرة ولا أعتقد أنها ستكون كذلك لو أنها ما زالت للعرب». انبثقت هذه النظريَّة العبقريّة في رأسها بعد رحلة قامت بها إلى الداخل المحتل، بعد أن سمحت إسرائيل لعشرات الآلاف من الفلسطينيين بالدخول، فانتعشت اقتصاديّاً، ورسّخت ثقافة الدونيّة عند المُستعمَر.
بحثت واستفسرت. كان في فلسطين قبل النكبة مطارات، وخطوط للسكك الحديديّة، ودور عرض للسينما، ومسارح ومقاه، كنّا نملك كل المقومات الثقافية والاقتصادية والجغرافية ــ فلسطين قارّة مُصغّرة، شمالها الغابات ووسطها الجبال والسهول وجنوبها صحراء النقب ـــ ولدينا أهم سياحة دينية في العالم، أرض المسيح ومعراج محمد عليه السلام والتعايش بين الأديان، لذلك أردت أن أُفهم هذه الصديقة أن المحتلينَ لم يأتوا لنا بالنظافة أو الجمال أو الحضارة، بل بالقتل والخراب والعنصريّة، وأن هذا الشعور بالدونيّة والقصور والانهزام لا يجب أن يكون في فتاة ستصبح أماً في يوم من الأيام، ماذا ستحكي لأولادها، الأرض يستحقونها، لأنهم أصحابُ حضارة؟ هذه الثقافة التي يعمل الاحتلال على ترويجها منذ عشرات السنوات، بأنه الدولة الديمقراطية والعادلة، وبأن جيشه الذي لا يقهر، فزرعَ المستوطنات بين مدننا وقرانا، ليقول انظروا، بيوتنا أجمل من بيوتكم، وشوارعنا أنظف من شوارعكم، وأبناؤنا أذكى من أبنائكم.
بدأتُ أسرد على شام الحكايات تلو الحكايات. حكاية شاب يتغرّب عن أهله ووطنه، ويذهب لدراسة الطب في بيروت، ينتظر مرور القطار، في الصّورة محطة قطارات في مدينة طولكرم. حكايةُ أربعة رجال يتحلّقون طاولة للعب الشدّة وتدخين النرجيلة، في الصورة مقهى مكشوف على شاطئ البحر في يافا. حكاية سيّدة بقبعتها الفرنسية ولباسها الأرستقراطي في أحد أحياء حيفا. حكاية إعلان حفلة للسيدة أم كلثوم في أحد فنادق القدس. حكاية أحد الأعراس الشعبية، في الصورة رجال في حلقة دبكة والنساء يصفّقن ابتهاجاً، ــ لا يوجد وعّاظ بعدم الاختلاط ــ اجتمعت القرية بصغارها وكبارها للفرح.
ثمّة حياة سُرقت من بين أيدينا، وأحلام تم قتلها بالرصاص الحي، أعلم أن الذاكرة أكبر من ألبوم صور، لكنّه ضروري مثل الهواء، حتى لا ننسى أن الأرض أرضنا، والبحرُ بحرنا، مهما حاول الاحتلال تزييف التاريخ وتغيير الواقع.
شام تثرثر كثيراً كعادتها، تريد أن تعرف التفاصيل، وقاسيةٌ هي التفاصيل وموجعة، تقلّب الألبوم بين يديها وتسألني: " خالوا ما هذا؟ وما هذا؟ " وأنا أجيبها بقلبٍ مكسور وعيون غائمة بالدموع: إنها فلسطين يا صغيرتي، فلسطين. أقصُّ عليها الحكايات حتى تنام على ذراعي، لعلّها تصحو على فلسطين محرّرة من القتلة وسارقي أحلام الأطفال وحليبهم.