كتاب مفاجئ تحوك فيه التشكيليّة اللبنانيّة سيرتها على طريقة دودة القزّ. بانوراما يتقاطع فيها الشخصي بالعام، ويسيران في خط واحد. الشاعر والإعلامي السوري يقرأ السيرة متجوّلاً بين صور ورسوم تشبه تحفاً عائليّة...
بشير البكر *
«ما نقوله عن النفس شاعري على الدوام». حضرتني مقولة أرنست رينان الشهيرة بعدما انتهيت من قراءة سيرة نجاح طاهر الذاتيّة، بعنوان «الهجر»، وصدرت أخيراً عن «دار الآداب» في كتاب أنيق يجمعها بسيرة أخرى، بعنوان «متاهة الإسكافي» للشاعر المصري عبد المنعم رمضان. في حكي استعادي نثري طليق، ترجع التشكيليّة اللبنانيّة بعيداً إلى تاريخ الأسلاف الوائليين القادمين من بادية نجد إلى جبل عامل في القرن الثالث عشر، وصولاً إلى الجد الكبير كامل الأسعد رمز «المهابة والجبروت»، والصرامة مع النساء ومصدر «الرجولة والاعتزاز بالنفس».
ينفتح باب السيرة على صفحتين تشبهان إلى حد كبير خزانة أسرارٍ وذاكرةً زمنية: صور بعض أفراد العائلة، ورسوم بريشة الفنانة لطيور وزهور ورقى وتمائم. مصباحٌ سحري، ضفدعة، طاووس، وقطتان، وديك، ورود، كرز ومشط. شاشة بيضاء تقدِّم المشهد العام، ولوحة تقود إلى تلمس خيوط نص حيك على طريقة دودة القزّ. سيرة تخرج عن التعبير المباشر، تبوح بقدر كبير من الحميمية. مجموعة حكايات عن اللحظات العائلية، وتقاطعها مع الأحداث التاريخيّة...
تفتّح وعي الراوية/ الطفلة على عيني جدّها الثاقبتين، وشفتيه المزمومتين تحت الشارب المعقوف. هذا الشاهد الرقيب ترك تأثيره بقوة في نصِّ نجاح طاهر. جاء النصّ ثمرة تعرُّفها على الحياة بحواسها الخمس، ليبدو كأنَّ الكاتبة في تلك السن الصغيرة وما بعدها، لم تعرف حضوراً أقوى للأحوال والمقامات سوى شكلها القديم.
تبدو حمولة الذاكرة ثقيلة، حتى إنَّها تمثّل مصدر إلحاح مستمر. وجوه تعكس أحداثاً، وصور قديمة من تاريخ بعيد لأشخاص يطوفون في فضاءات أخرى، يرتدون ملابس بعطر الزمن الجميل، يتحركون في عوالم نقية صافية. صورة العمّة أميرة (الكتاب مهدى إليها)، صورة أميرة شرقية عصرية: شعر قصير، فستان أسود وأحمر شفاه خفيف. نراها حالمة ومقبلة على الحياة، مع قدر واضح من الحشمة. تحيل الصورة إلى غوى جميلات السينما في بدايات عهدها الذهبي.
صورة الجدة الكبرى سلطانة: امرأة تفيض العافية من خديها، تتكلم عيناها بحسن صاف، نظرة قادمة من واقع بعيد (في الزمان والمكان) ثاقبة مباشرة، «سلطانة بنت سهيل... ضوء القمر في الليل»، كأنَّها إحدى ملكات العصور الذهبية في أوروبا. بنت الباشا الزوجة الثانية لكامل. الصورة الأخيرة للملك فيصل بن الحسين وهو يبدو شبه مكتوف الأيدي، واقفاً في وجوم، لكن بقناعة وشجاعة. كامل الأسعد في شبابه على صهوة فرسه البيضاء، يظهر جميلاً وصريحاً.
الكتاب متحف خاص لزمن العائلة، لأنواع من التذكارات، التي تعبّر عن جوانب دافئة. وثائق وصور تعيد تشكيل فترة الحلم العربي الأول عشيَّة التخلص من الاستعمار العثماني، وترسم صورة بانورامية للبيت الكبير الذي يجمع بين العز والجمال والنبل

تعيد تشكيل الحلم العربي الأول بعد سقوط الاستعمار العثماني

والشجاعة. الموضوعات التي يتناولها الكتاب تدور في داخل عائلة الأم، انطلاقاً من احترام مبدأ التاريخ وروحه. تبدأ الكاتبة سيرتها بتقديم الجد الأكبر كامل. تمسك ببساطة جميلة وبراعة شريط الأحلام والوقائع. تتابع تطور أحلامها التي تشظت في اللحظة التي هوت فيها صورة الجد على الأرض. هناك بدأت الذاكرة تصبح مرآة الخيال، و«حارس الروح» على حد قول شكسبير.
يشي الكتاب برغبة دفينة لدى الكاتبة في أن تترك أثراً لوجودها الخاص، للأولاد والأحفاد. لذا نبشت أوراق الذكريات وأعادت تظهير الحكايات العائلية. بكتابة فيها قدر كبير من الحب والشجن، تسترجع لحظات لا تعود، وتحاول إعادة تحريك مخزون ذكريات الطفولة. كتابة حميمة، لا لأنّها تتحدث فقط عن حقائق حياتها، بل لأنّها ترفع الكلفة بينها وبين القارئ.
في سيرة نجاح طاهر ـــــ كما في غالبية السير عموماً ـــــ حسرة لا تنقطع حين يُستعاد المشهد الشخصي. مشهدٌ لا يمكن الشفاء منه رغم الخفة والحكمة والشجاعة. ما يميّز هذه السيرة في شقّيها الأول والثاني هو التقاطع بين الشخصي والعام، كلاهما يسير في خط تراجيدي واحد. موت الجدّ كامل بالسكتة القلبية في سن الرابعة والخمسين، ودفن الحلم العربي، وتقسيم الوطن العربي.
يجري النظر إلى السيرة، عموماً، كنوع من ترجمة النفس أو تعريتها، والرغبة في البوح والتطهّر، ولذا تبدو كتابتها في بعض الأحيان شبه علاج من داء الماضي الثقيل. خلف هذه الإشكالية تكمن معضلة أكبر تتعلق بالمسكوت عنه في السيرة. لكنَّ الأمر في حالة طاهر مختلف لأنَّها اعتمدت على مقامات سردية متعددة. لكن من الملاحظ غياب شخصيات كثيرة، منها الراوية نفسها، التي تمر مروراً سريعاً لتضفي لمسة خاصة وتعيد الإمساك بخيوط الرواية. لذا تتماهى إلى حد كبير مع الجدة (ذات الهمَّة) التي تصبح الشخصية الأساسية في العمل بعد موت الجد الكبير، وينشأ نوع من التواطؤ والحوار الضمني: «كانت تتقَّصد أن تطعمني بيدها. وعندما التقط اللقمة أتقصّد أن ألمس بشفتي جلد أصابعها الرقيقة. كأننا، هي وأنا، كنا نريد لكل قضمة أن تكون دمغة تؤكد مدى ارتباطنا إحدانا بالأخرى،ارتباطاً أقوى من موتي أو موتها».
يطرح التنقل بين الأزمنة التباسات جميلة ومثيرة، لأنَّه يعيد اكتشاف الزمن الخاص ويبعث على الشجن. شعور مردّه السكون في داخل الكاتبة. تتخلى الأخيرة عن فرض رقابة على قراءة ألوانها والسيطرة على أدواتها وقيادتها نحو أقصى نقطة يبنى فيها النص من دون تشويه، ويبقى الزمن مفتوحاً وملتفاً حول ذاته والآخر. وهذا الأمر يكتسب أهميّة ‏قصوى، لأن السيرة منجز لا يكتب إلا مرّة واحدة. وهو غير قابل للإعادة أو التنقيح أو الإضافة.
هناك جانب آخر من السيرة يتمرأى فيه جمال العلاقات اللونية. الصور التي توسع حقل المتخيّل، والوقت السرمدي الذي يأخذ بيد القارئ من مكان إلى آخر، والتداعي الحر الذي يفصل بين زمن الكتابة وزمن التجربة. تريد تجربة نجاح طاهر في الصورة والرسم أن تقول: ليس في الكتابة وحدها يمكننا رسم صورة عن ذواتنا. لذا اهتمت بمسألة تمثيل الذات من خلال الصور الشخصية والرسوم التي تنقل الكون وجماليات المكان الذي نشأت فيه.
اختارت لذلك لغة تشكيلية خاصة تعود بها إلى بدايات وأبواب لا يراها أحد سواها، كما لو أن المكان والزمان أثرين لطفولة لن تعود. هذا السحر الذي يفيض من نور الحكاية هو محرك الفرشاة واللون. تريد الكاتبة من كل صورة ولوحة أن تنفذ إلى عمق أفكار الأشخاص، وتلمس سعة أحلامهم ولا محدودية أرواحهم. تريد أن تتغلغل إلى دواخلهم عبر التركيز على طريقة نظرهم والإلمام بالتجاعيد المميزة لوجوههم، ثمَّ كيفية وقوفهم أو جلوسهم وما إلى ذلك...
سيرة نجاح طاهر وفية للقاعدة الأساسية التي تحدث عنها راسين في الكتابة وهي أن «تثير الإعجاب». فيها يتداخل الرسم والصورة مع النص، والنص مع الصورة والرسم، فتصير اللوحة والصورة كتابة، وتتحول الكتابة إلى لوحة فنية باللون الأثير لدى الفنانة... اللون المتعدد الاحتمالات.

* شاعر سوري


«متاهة الإسكافي»

في المقلب الآخر لسيرة نجاح طاهر، يضمّ المجلّد نفسه سيرةً أخرى بتوقيع الشاعر المصري عبد المنعم رمضان (الصورة). في «متاهة الإسكافي» يعود صاحب «قبل الماء قبل الحافة» إلى مرحلة من حياته هي منجم الذكريات المستترة. النصّ يتميّز بالجرأة، وقد أثار جدلاً حين نشرت مقتطفات منه في جريدة «اليوم السابع» الأسبوعيّة (تصدر في القاهرة منذ 2008). يكتب رمضان نثريته هذه بلغة الشعر، وهي مؤلفة من خمسة فصول، تحتفي بالعائلة والشهوة بلغة أقرب إلى الصوفيّة.