بهرام حاجو: مانيفستو الهلعخليل صويلح
في معرضه الجديد الذي اختُتم أخيراً في صالة «آرت هاوس» الدمشقية، تطالعنا وجوه بهرام حاجو (1952) بنظرات اتهام، كما لو أنّنا أهملناها طويلاً في قبو للتعذيب، أو أنّنا بصدد استعادة أرشيف منسي للألم البشري. نتوقف عند وجوه ممحوة، وجوه منهكة وشاحبة، وأخرى فقدت ملامحها، عدا أعين شاخصة بحدّة تحدّق في البياض.
التشكيلي السوري المقيم في مدينة مينستر الألمانية، يختزل في معرضه الجديد مفردات الجسد إلى بقع حمراء أو سوداء، تلطّخ السطح. لعلها الأرشيف السرّي للانتهاك المزمن الذي وقع على هذه الأجساد المحاصرة.
معظم أعمال هذا التعبيري المتفرد، تنحاز إلى توثيق عذابات الجسد. كأنّه يكتب مانفيستو ضدّ العسف والأذى الروحي اللذين مورسا عليه طويلاً. يرسم كمن يستعيد شريط مكابداته الطويل، وآلامه وأحلامه المجهضة. بتدقيق بسيط في الخطوط والإشارات والملامح، ننتبه إلى أن هذه البورتريهات المتكررة تشبه صاحبها تماماً. إنه بهرام نفسه بشعره الحليق، لكن بندبة في الظهر أو في الرأس. جسد عار يدير ظهره لنا، يخبرنا بجلاء: انظروا ماذا فعلوا بي! لعل ما نشاهده هنا وثيقة إدانة حيّة لمآل حيوات مغتصبة: الأيدي مبتورة كأنما تعرّضت لضربة بلطة حادة، فيما تستطيل الأرجل في ورديّة تعذيب. في أحيان أخرى، تودّ الأذرع أن تحلّق عالياً في طيران بعيد خارج الجدران التي تكتم الأنفاس والأرواح. وجوه مذعورة وقلقة ومشوّهة تفتقد إلى الطمأنينة واليقين. هناك من يتربّص بها في ألبوم مفتوح على ذاكرة جحيمية مشبعة بالكدمات والعويل والصمت. لم تخرج هذه الوجوه من إحدى روايات كافكا، بل إنها شرقية صرف في أشواقها المتأججة بالشهوات. ها هي تستحضر تاريخاً مدمَّراً ومهزوماً ومأسوراً، هذا ما تشير إليه نظرات الهلع في العيون، والارتباك في حركة الأعضاء. مغامرة لونية فريدة بخطوط ثخينة ونزقة بالأبيض والأسود. لن نستغرب إذاً، أن نشاهد جسداً ملطّخاً بالبرتقالي أو الزهري في لحظة ارتجال قصوى.
الجسد هنا يرسل إشاراته من النقطة التي يكمن بها الألم، وربما الشهوة، على خلفيات بيضاء، للتأكيد على أحوال الجسد المعذّب عن كثب. الأنثى عارية في معظم أعمال بهرام حاجو، في استغاثات مكبوتة. لكل جسد حكاية، يمكن قراءتها بتأويلات متعددة، تبعاً لما تتركه الفرشاة العريضة في متتالياتها اللونية من تذكارات: طلسة برتقالية، أو خضراء أو كحلية غامقة، تُغرق الجسد أو تفصيلاً منه لإظهار ما يعتمل في الداخل.

احتفظ بمخزونه الشرقي لجهة الإحالات البصرية والنزق اللوني

أجساد مسربلة بجراحاتها، يلفها ضماد مدمّى، لكنها تعيش رغبات مجهضة، وتستنشق هواءً آخر، تستمده على الأرجح من مخزون ذاكرة بعيدة. هكذا يختزل بهرام حاجو الجسد بطلاء أفقي مستخدماً تقنيات لافتة، تعكس مرايا الذات المتناقضة وعزلة الكائن في محيط كابوسي محتدم. ثلاثون لوحة بالإكريليك الممزوج بالفحم والرمل، تحاصرنا بعذابات شخوصها أينما اتجهنا. تكتفي بعض الأعمال بوجوه ممطوطة تحتل القماشة بأكملها، لنكتشف لاحقاً مركزية الكتلة في عمارة اللوحة، وهي تنزاح عن الفراغ بحضورها الصارخ وإحالاتها التعبيرية المتفلتة من أي معايير.
ذلك أن اللوحة هنا مأسورة لانفعالات لحظوية مضطربة، في تجوال بين الذات والآخر. كما تخضع للمحو والحذف المستمرين، كمحصلة لخبرات تراكمية عبرتها تجربة هذا التشكيلي في انخراطه العميق بمحترف التعبيرية الألمانية في نسختها الجديدة، من دون أن يفقد مخزونه الشرقي لجهة الضوء والإحالات البصرية والنزق اللوني. إذ تتراجع الحشود والمناظر الطبيعية التي ألفناها في أعماله السابقة، إلى تقشف وزهد في العناصر ليحتل مساحة اللوحة شخص واحد بكامل عزلته وعريه وصراخه المكبوت، أو رجل وامرأة في حالة خصام تارة، ومواجهة طوراً، وحمّى إيروسية في أحوال أخرى.
لكن مهلاً، ندوب الجسد ستظل ماثلة في الحالات كلها، كثيمة مرجعية لكل لوحات المعرض. هكذا تذهب اللوحة إلى الداخل في ترحال محموم وشرس لفحص مكمن الشجن، ونبش ما هو مخبوء وسرّي ومكتوم في خريطة منهكة ومتعبة وممزقة. خريطة واقفة على حافة الانهيار أو الاستسلام.