في بلد يعاني من سلسلة أزمات اجتماعية واقتصادية معقدة، ويتعثّر سياسياً وطائفياً، ضمانته الوحيدة روابط أسرية صحية وقيم اجتماعية رادعة وقواعد سلوكية أخلاقية مهددة أيضاً بالتدهور في ظل الانحلال الأخلاقي الذي بدأ يعصف بالمجتمع. وكنا قد حذرنا من مؤشرات جنائية مقلقة بعدما نشطت جرائم الاتجار بالبشر والتحرّش والاستغلال الجنسي للأطفال، وتطورت طبيعة الجرائم لتأخذ وجهاً آخر يواكب الصعوبات المالية والاقتصادية، وازدهرت مع التسرّب المدرسي و«فلتان» الأطفال في الشوارع.ومع سهولة وصول الأطفال والمراهقين إلى العالم الافتراضي ولجوء البعض إلى «التطنيش» عن السلوكيات غير الأخلاقية والجرمية مقابل «الترند» وحصد المشاهدات، هل سيصبح أطفالنا ضحايا للمضطربين جنسياً؟ وهل الحملة الواسعة للمطالبة بإنزال أشد العقوبات بحق المشتبه بهم «المدانين إعلامياً» بجريمة التحرش والابتزاز الجنسي بحق القاصرين مؤخراً هي الطريقة الصحيحة للتعامل مع هذا الخطر؟


لم تتكشّف بعد ملابسات جرائم الاعتداء والابتزاز الجنسي التي طالت عدداً من القاصرين من قبل أفراد إحدى العصابات المنظّمة، إضافة إلى إجبارهم على تعاطي المخدّرات، بحسب ما جاء في بيان قوى الأمن الداخلي في الأول من أيّار الجاري، والذي أوضح أنه «نتيجة المتابعة وجمع المعلومات، أوقف مكتب مكافحة جرائم المعلوماتيّة وحماية الملكيّة الفكريّة 6 أشخاص في بيروت وجبل لبنان والشمال، من بينهم 3 قُصَّر ذائعي الصّيت على تطبيق تيك توك، وهم من جنسيّات لبنانيّة وسوريّة وتركيّة». وفي الخامس من أيّار، أصدرت شعبة العلاقات العامّة في قوى الأمن الداخلي بلاغاً عمّمت فيه صورة للمشتبه به ب. ن. الذي «تبين بحسب اعترافات القاصرين الضحايا والموقوفين انه اعتدى جنسياً على العديد من القاصرين، ومنهم مَن لا يزال مجهول الهوية». وطلب من كل ضحية التواصل فوراً مع مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية.

تسريب تفاصيل التحقيق يُهدد سلامة القضية
انشغلت معظم وسائل الاعلام ومواقع التواصل الاجتماعي بنشر أخبار مسرّبة من دوائر التحقيق الاولي وإفادات قيل انها مدوّنة في محاضر الاستجواب. وسرعان ما تحول الأمر الى حملة واسعة للمطالبة بإنزال أشد العقوبات بحق المشتبه بهم المدانين إعلامياً، فيما طلب البعض إعدامهم وإخصاءهم كيميائياً، قبل ختم التحقيق من دون معرفة كل ملابسات الجرائم وتحديد جميع المتورطين وحجم تورطهم.
قد يكون الدافع الأساسي للمطالبين بإعدام المشتبه فيهم ومعاقبتهم «بسرعة» هو ردع المجرمين عن ارتكاب جرائم مماثلة من خلال تهديدهم بالقتل. لكن، بغضّ النظر عما إذا كان هذا يشكّل رادعاً حقيقياً أم لا، أليس من الضروري ان تظهر الحقيقة كاملة وتحديد جميع المتورطين

قبل المطالبة بالعقاب؟
«تسريب التحقيق: جريمة» كان عنوان غلاف العدد الأول من «القوس»، في كانون الثاني 2022. وعلى مدار أكثر من عامين، ذكّرنا بوجوب الحفاظ على سرية التحقيق كي تنجلي الحقيقة ولا يفلت المجرمون من العقاب وتتحقق العدالة، وحذّرنا من خطورة تسريب التحقيقات ونشر المعلومات المضللة والإشاعات التي، في بعض الأحيان، قد يفبركها المجرمون لتضليل التحقيق وإبعاد الشبهات عنهم. لكن يبدو أن نشر أي معلومة يزعم أنها مسرّبة من دوائر التحقيق بطريقة مثيرة هو «ما يطلبه الجمهور» الذي يسارع إلى حسم الحقائق وإصدار الأحكام المسبقة والاستنتاجات المتسرعة في شتى القضايا والجرائم والحوادث، ناسفاً إحدى أهم الضمانات للإجراءات القضائية العادلة، وواضعاً عقبات أمام تقدم التحقيق ووصوله الى كشف جميع المجرمين.
حذّرنا من خطورة تسريب التحقيقات ونشر المعلومات المضللة التي، في بعض الأحيان، يفبركها المجرمون لتضليل التحقيق وإبعاد الشبهات عنهم


أحياناً، يمكن أن يُشكل المجتمع والرأي العام عقبة رئيسية أمام تحقيق العدالة في جرائم التحرش والاغتصاب، من خلال ممارسة الضغوط على نظام العدالة الجنائية للاسراع في إنزال أشد العقوبات بحق المشتبه بهم حتى قبل ختم التحقيق. وقد يؤدي تسريب تفاصيل التحقيقات والأحكام المسبقة إلى عرقلة تحقيق العدالة بشكل كبير، وأن يعرّض التحقيق للخطر من خلال تعريض حياة الشهود والمحققين للخطر، وقد يدفع ذلك المشتبه بهم إلى الفرار أو إتلاف الأدلة، كما يمكن أن يضلل الرأي العام من خلال معلومات مجتزأة أو غير دقيقة. وإلى ذلك، يؤثر تسريب المعلومات على سير المحاكمة من خلال انتهاك حق المتهم في محاكمة عادلة، وقد يؤثر على حيادية المحقق أو القاضي، ويمكن أن يمارس ضغوطًا على القاضي لإصدار حكم معين، ويصعّب على المحامين أداء عملهم في الدفاع عن موكليهم. علاوة على ذلك، يمكن أن يؤدي الضغط الناتج عن تسريب معلومات التحقيق إلى إدانة أبرياء، عبر الضغط على المحققين لتوجيه الاتهام إلى شخص محدد، أو التأثير على شهود العيان وتشجيعهم على تغيير شهاداتهم أو اختلاق معلومات خاطئة.



حياد المحقق: حجر الأساس لتحقيق العدالة
يُمثّل حياد المحقق وابتعاده عن العواطف حجر الأساس لتحقيق العدالة وإرساء سيادة القانون. فعندما يتخلّى المحقق عن أيّ تحيّز مسبق ويُقيّم الأدلة بشكلٍ موضوعي ودقيق، يُمكنه الوصول إلى الحقيقة وضمان معاملة جميع الأطراف بإنصافٍ ومساواة. يُؤدّي حياد المحقق إلى كسب ثقة جميع المعنيين بالقضية، ممّا يُسهّل عمله ويُساعده على جمع المعلومات بشكل فعّال. كما يُساهم في اتّخاذ قرارات صائبة تُحقّق العدالة للجميع. لذلك، فإنّ المحققين مُطالبون باتّباع أعلى معايير الحياد والموضوعية في عملهم، ممّا يُساعد على بناء نظام قضائي عادل يُساهم في تحقيق الأمن والاستقرار في المجتمع.

الاستخفاف بالجريمة وجعلها «ترند» على «تيكتوك»
انتشرت في الآونة الأخيرة فيديوهات على وسائل التواصل الاجتماعي تمثّل الاستخفاف بالجريمة وجعلها ترند على تيكتوك، ممّا يُشكّل خطراً حقيقياً على المجتمع. فمن خلال عرض «الحلاقة» بطريقة ساخرة أو كوميدية، يُساهم المجتمع في تطبيع العنف والتقليل من خطورته، ممّا قد يُشجّع على ارتكاب المزيد من الجرائم. كما يُمكن أن يُؤدّي هذا السلوك إلى التأثير على نفسيّة ضحايا الجرائم ويُفاقم معاناتهم ويُؤثّر على شعورهم بالأمان.

الإخصاء الكيميائي
يتضمن الإخصاء الكيميائي، المعروف أيضًا باسم «العلاج الكيميائي الجنسي»، استخدام أدوية أو حقن هورمونية لخفض مستويات هرمون التستوستيرون في الجسم بشكل كبير، مما يؤدي إلى تقليل الرغبة الجنسية والدافع الجنسي. من مزايا الإخصاء الكيميائي كعقوبة للمتحرشين الحد من خطر تكرار الجرم، وقد يُنظر إلى الإخصاء الكيميائي كبديل أكثر إنسانية للعقوبات القاسية مثل السجن مدى الحياة، خصوصاً للمتحرشين الذين يعانون اضطرابات نفسية أو هورمونية. في المقابل، يُثير هذا الإجراء قلقًا أخلاقيًا كبيرًا، إذ يُعتبر عقوبة قاسية ولا إنسانية تنتهك حقوق الإنسان الأساسية، خصوصاً أنّه لا يُمكن التراجع عنها بسهولة، كما أن هذه العملية لا تعالج الجذور النفسية والاجتماعية الكامنة وراء سلوكيات التحرش الجنسي، مما قد يُعيق عملية إعادة التأهيل وإعادة الإدماج للمتحرشين.