انضمّ عناصر قوى الأمن الداخلي إلى الجيش اللبناني في الاستفادة من هبة أميركيّة شهريَّة بقيمة 100 دولار لكل عنصر، لفترة محدّدة لا تتجاوز ستة أشهر، فيما بدى تجاوزاً لسيادة الدولة. وكي يكتمل مشهد استباحة سيادة مؤسسات الدولة، فُرض على بعض هؤلاء العناصر، بالتنسيق مع قيادتهم، إجراء مقابلات مع موظفين في السفارة الأميركيَّة لاستصراحهم عن التحوّل الجذري الذي أحدثته في حياتهم تلك الهبة «العظيمة»، وفقاً لمعلومات يجري تداولها ولم تؤكَّد، مع غياب أيّ معلومة حول وجهة الاستفادة من محتوى هذه المقابلات في حال صحة هذه المعلومة. هذه «الإهانة» ليست حدثاً طارئاً منعزلاً عن سياقه، بل استكمال لمسار طويل لا يجد أحد من المسؤولين -نظرياً- عنه نفسه معنياً بمعالجة نتائجه وتداعياته أو حتى مجرّد الحديث عنه. مسار انطلق مع بدء الأزمة، وكانت آخر حلقاته وصول الراتب الشهري لهؤلاء العناصر المحتجزين عنوةً بعد قضائهم سنوات الخدمة المطلوبة، مع كل الإضافات والمستحقات، إلى ما دون المئة دولار التي تتصدّق بها عليهم سفارة أجنبيَّة في بلادهم

«العَقد شريعة المتعاقدين»، قاعدة قانونيَّة جرى تعطيلها عمداً في العلاقة بين قوى الأمن الداخلي وعناصرها. قبل حوالي عقدَين من الزمن، تقدّم شبّان لبنانيون بطلبات تطوّع إلى هذه المؤسسة وفقاً لعَقد يُجدد دورياً بطلب من صاحب العلاقة، ويمكن إنهاؤه بعد 18 سنة مع حصول الأخير على كامل مستحقاته (راتب تقاعدي وتعويض نهاية خدمة) أو حتى قبل ذلك إذا تخلى عن هذه المستحقات واكتفى بتعويض الصرف. تعطيل هذه القاعدة واحتجاز هؤلاء الشبّان في وظائفهم بعد انتهاء مدة العقد، أُلبِسَ لبوساً قانونياً مع قرار مجلس الوزراء وقف التوظيف (والتسريح من الوظيفة) لمدة ثلاث سنوات كواحد من التدابير المتخذة لمواجهة الأزمة الاقتصاديّة. انتهت مفاعيل القرار بانتهاء السنوات الثلاث، وباشر الجيش اللبناني بتطويع عناصر وتسريح آخرين ضمن معايير محدّدة، أما في سلك قوى الأمن الداخلي، فقد حالَ عدم وجود مجلس قيادة مكتمل النصاب من الأعضاء الأصلاء دون اتخاذ قرار مماثل في ظل الفراغ الرئاسي واكتفاء الحكومة بتصريف الأعمال. كان يمكن لهذا الوضع أن يكون محتملاً ومبرراته مقبولة لو لم يتدنَّ راتب العنصر في هذه المؤسسة، مع بهلوانيات حاكم المصرف المركزي ومنصّته «صيرفة»، إلى حدود 80 دولاراً، من دون أن تنفع في ترميمه هبة أميركية «مؤقّتة». يبدو السؤال هنا منطقياً وضرورياً، وإن بدا أنه لا يعني كثيرين في هذه البلاد: كيف يعيش هؤلاء؟

سرّحونا لنعيش بكرامة
«نحن معتقلون» يقول يوسف لـ«القوس»، «لا توصيف آخر يمكنه أن يفي بالغرض، سجناء لا يستفيدون من سنة سجنيّة ولا من حسن سلوك ولا من تعاطف الإعلام». يتحدّث عن مبلغ 100 دولار أميركي باتت تقدّمه السفارة الأميركيّة في الثامن عشر من كل شهر لعناصر قوى الأمن بالتعاون مع الأمم المتحدة ضمن برنامج «دعم سبل العيش» المؤقت الذي يستمرّ لمدّة ستة أشهر، الذي كان في السابق محصوراً بعناصر الجيش اللبناني. يبتسم بمرارة ويلفت إلى حجم الوقاحة في إجراء أميركيين مقابلات مع بعض زملائه لسؤالهم عما أحدثته هذه المنحة من تحوّل نوعيّ في حياتهم.
يستذكر يوسف ما حدث بعد يوم واحد من إقرار مجلس الوزراء (قبل أشهر) تحسينات شكلية على الرواتب، عُرفِت زوراً بالـ «3 معاشات» وتبخَّرت مع ارتفاع سعر الصرف، حيث فوجئ العسكريون بسيارات الفروع المكلفة بمراقبة مخالفات الأمن العسكري تنتظرهم صباحاً أمام أبواب مراكزهم لتسجل كل تأخير ولو لم يتجاوز الدقيقتين لمعاقبتهم عليه لاحقاً. ووفقاً ليوسف، ثمَّة في المؤسسة من لم يرَ في الزيادة «العظيمة» حينها سوى تخليصها العسكريين من مكابدة الانتقال بالـ«أوتوستوب» أو سيراً على الأقدام، ودفعهم إلى استعمال سياراتهم الخاصَّة، وبالتالي، إن تأخّرهم لم يعد مبرّراً.
ويسرد يوسف معاناته في حزيران الفائت، بدءاً من الصرّاف الآلي في المصرف الذي وطّن راتبه فيه، الذي لا يعترف بـ«الفراطة»، ما يعني أن راتبه الحقيقي عن شهر حزيران لن يتجاوز 50 دولاراً من أصل 80، أما الثلاثين المتبقية فستنتظر راتب هذا الشهر (تموز) كي تنضمّ إليه. فلسوء حظه، أقفل المصرف أبواب جميع فروعه باستثناء فرعه الرئيسي في بيروت وأبقى فقط على ماكينات السحب في المناطق. وبات انتقاله بسيارته من قريته الحدوديّة إلى فرع العاصمة يكلفه نسبة كبيرة من راتبه.
يعود هذا الانحدار الإضافي المفاجئ في قيمة الراتب، إلى اقتراب منصّة «صيرفة» التي يتقاضى الموظفون رواتبهم من خلالها، من سعر الصرف في «السوق السوداء» حتى كادت تساويه (أكثر من 86000 ل.ل. للدولار الواحد) من دون أن يعتصم الموظفون أو يمتنعوا عن قبض رواتبهم بانتظار أرنب جديد يخرج من قبعة المعنيين فتُخفّض المنصة إلى 40 ألف ليرة أو حتى 60 ألفاً. ومرّة أخرى يكون رهان صاحب عبارة «بكرا بيتعوّدوا» صائباً.
وصل يوسف إلى «البنك»، ليكتشف أن «السيستام» معطّل هذه المرة أيضاً، وعليه العودة في يوم آخر. المشكلة أن ما في سيارته من وقود يكفيه للوصول إلى قريته ولا يسمح له بالعودة إلى البنك ولا إلى مركز خدمته. وهي ليست مشكلته الوحيدة، فالمشكلة الأكبر بالنسبة إليه أنه هاتف ابنه «لؤي» ذا السنوات السبع قبل يوم القبض، و«انتخى» ليسأله عمّا يرغب في تناوله على الفطور. السؤال الذي كان اعتيادياً قبل كل «مأذونية» صار شهرياً مع تفاقم الأزمة والاكتفاء بالزعتر للفطور والبطاطا المقلية للغداء على مدى 29 يوماً لا يخرج عن روتينها المعتاد إلا يوم «القبض» الموعود.
ولسوء حظه أيضاً، تزامن هذا التطوّر مع خسارته عمله الآخر (الذي كان يعود عليه بقرابة 300 دولار أميركي بالكاد كانت تكفي مع راتبه الأصلي لتسديد فواتير الكهرباء والماء والهاتف وثمن الوقود وأقساط المدرسة وإيجار المنزل). لم يفكر يوسف في تلك اللحظة في كيفية تسديد كل هذه الفواتير، بل فقط في «ترويقة» لؤي التي لن يكون فيها حتى الزعتر متاحاً لأنه ببساطة لا يملك هذه المرّة ثمن ربطة خبز وثمن الزعتر الذي يصل سعر الكيلو منه إلى 16 دولاراً (مليون ونصف مليون ليرة).
في طريق عودته إلى المنزل، سأل نفسه إن كان للمسؤولين عن قرار إبقائه ورفاقه في خدمتهم تعسفاً -ومن دون مقابل- رغم إنهائهم سنوات خدمتهم الـ 18 التي ينصّ عليها عقدهم مع المؤسسة، أطفال يقضون يوماً أو أكثر بلا طعام، أو للمسؤولين عن رفع سعر «صيرفة»، أو عن إقفال فروع المصارف في المناطق وتعطيل آلات السحب في كل مرّة بالتزامن مع تحويل الرواتب. وتذكّر فرص العمل داخل البلاد ضمن اختصاصه التي «طارت من يده» في الأشهر الأخيرة يتجاوز راتب كل منها الألف دولار، لتضارب دوامها مع دوام خدمته. وراح يفكّر في عدد المنتحرين من عناصر قوى الأمن الداخلي تحديداً دون غيرها من الأسلاك الأمنية منذ بداية الأزمة، ليجد الأمر منطقيّاً بشكل ما. فالأزمة في رأيه أقل وطأة على عناصر الجيش والأمن العام المحظوظين بقيادة «تسأل عنهم» ولا تعدم وسيلة للتخفيف من معاناتهم، بالإضافة إلى فتح باب التسريح والتطويع جزئياً في الجيش، بينما تبدو قيادة قوى الأمن الداخلي في حالة إنكار وانفصال تام عن الواقع.
اضطرّ بعض العناصر قبل سنتين إلى تلقّي العلاج في المستشفى على نفقتهم الخاصة بعد إصابات تعرّضوا لها خلال الخدمة


يعلم يوسف وزملاؤه أن قرار وقف التوظيف والتسريح لمدة ثلاث سنوات صدر عن مجلس الوزراء في الموازنة العامة بتاريخ 31/7/2019 (قانون رقم 144، المادة 90) ولا يمكن لمؤسسة رسميّة أن تخالفه، ولكن يحق لمجلس الوزراء التوظيف مكان الذين تقرر تسريحهم، بموجب المادة 32 من قانون موازنة العام 2020 التي أجازت التوظيف المؤقت والدائم فيها، إذا كان بديلاً من التقاعد والصرف من الخدمة. (قانون رقم 6/2020) كما يعلمون أنه رغم انقضاء السنوات الثلاث لا يزال الأمر متعذراً بسبب عدم وجود ما يكفي من أعضاء أصلاء في مجلس قيادة المؤسسة. ولكنهم لا يفهمون سبب امتناع المؤسسة عن اتخاذ أي مبادرة لتخفيف وطأة الأزمة على عناصرها.

تضارب مصالح
يبدو أنور (رقيب أول)، وهو يتمتع بصحة جيدة وبنية جسدية قوية استثمرها في العمل «بالفاعل» في أيام مأذونيته، راضياً عن ارتفاع يوميته من 200 أو 300 ألف ليرة في العام الفائت إلى عشرة دولارات هذا العام، ولكن المفاجأة أنه -رغم ذلك- لم يجنِ في الشهر المنصرم أكثر من 80 دولاراً من عمله هذا. هل اقتصرت أيام المأذونية على ثمانية في شهر كامل؟ لا، ولكنه يواجه صعوبة في العثور على من يقبل بتشغيله بعد أن يعلم طبيعة عمله الأساسي، لعدم رغبة أصحاب العمل في تحمّل مسؤولية أي ضرر جسدي يلحق به جراء عمله، وهي مسؤولية أكبر حين يتعلق الأمر بـ«ابن دولة»، إلى حدّ امتناع كثيرين عن نقل عسكريين في سياراتهم الخاصّة خشية وقوع حادث سير تكون تبعاته القانونية وخيمة عليهم، أو لأن صاحب العمل ليس مضطراً للقبول بعامل بدوام متقطع وفقاً لظروف خدمته، في وقت يمكنه تشغيل آخرين بدوام كامل. فضلاً عن امتناع أنور من تلقاء نفسه عن العمل في ورش البناء تلافياً للعمل في ورش لم يحصل أصحابها على تراخيص قانونية مما قد يعرّضه لمشاكل في عمله الأساسي (الذي تدخل مراقبة مخالفات البناء في صلب مهامه). (راجع «القوس»، 14 أيار 2022، «الوظيفة الثانية بين الحاجة وتضارب المصالح»).



إقامة جبرية؟
يبدو شادي أحسن حالاً مع وجود ثلاثة أشقاء له في الاغتراب يتكافلون على «إعانته» في محنته من خلال مبلغ يرسلونه إليه شهريّاً. يعبّر لـ«القوس» عن حزنه لعجزه عن اللحاق بإخوته في الاغتراب، حيث تنتظره فرصة عمل ممتازة، رغم إنهائه نظرياً سنوات خدمته، وما يزعجه أكثر «الشفقة» التي يراها في عيون الجميع وأولهم إخوته. «مصائب الآخرين تهوّن علينا مصائبنا» يقول شادي بعدما تذكر زميله إيلي، إذ لم يكن السفر «الممنوع» بالنسبة إليه مجرّد سعي وراء فرصة عمل أفضل، فبعدما أُصيبَ طفله بمرض خطير، تكفل الخيّرون بتأمين مصاريف سفره وعلاجه في إحدى دول أوروبا. سافر الطفل مع والدته، وبذل إيلي كل ما في وسعه للحصول على مأذونية «خارج البلاد» ليلحق بهما ويتابع رحلة علاج ابنه عن قرب، لكن قرار المدير العام بالرفض كان صارماً، فالسفر بالنسبة إلى العناصر في الوقت الحاضر ليس له إلا عنوان واحد في عُرف القيادة: «الفرار من الخدمة». بعد شهر توفي طفل إيلي في المستشفى الأوروبي ولم يستطع الأب المفجوع رؤيته إلا جثةً في المطار!
يُجمع يوسف وأنور وشادي على أنهم وكثيرين حسموا أمرهم لجهة الفرار من الخدمة، وأنهم كانوا يؤجّلون ذلك على أمل حصول خرق في جدار الأزمة الرئاسية، يليه تشكيل حكومة جديدة وعودة المؤسسات إلى الانتظام قريباً، وملء الشواغر في مجلس قيادة قوى الأمن الداخلي، ومن ثمّ وضع ملف تسريح العناصر على الطاولة ولو بشرط التخلي عن كامل حقوقهم التي لم تعد تساوي شيئاً. لكن، مع ما كشفت عنه جلسة الانتخاب الأخيرة من استطالة متوقّعة لأمد الفراغ، فإن الأمل تبخَّر، وحجم موجات الفرار المتوقعة سيفاجئ وربما يوقظ قيادة المؤسسة التي لم يوقظها تكرار حالات الانتحار بين عناصرها، الذين اضطرّ بعضهم قبل سنتين إلى تلقّي العلاج في المستشفى على نفقتهم الخاصة بعد إصابات تعرّضوا لها أثناء حمايتهم منزل وزير الداخلية بالتزامن مع تظاهرة حصلت أمامه وتخلّلتها حوادث شغب!