أزيز الرصاص المفاجئ يخرق سكون الليل أحياناً. يفرض بغزارته توقّفاً قسرياً لحركة العمل في زحمة النهار، يُجبر المارة على الاختباء في مداخل الأبنية وخلف السيارات، تمرّ الساعات بانتظار هدنة تُسعف الناس في الهرب من أرض المعركة، كأن أحداث الحرب الأهلية عادت على حين غرّة. بات المشهد مألوفاً، فالاشتباكات لا تغيب عن الضواحي، ولا يصعب تحديد وجهة السلاح ومصدره. فالأسماء والجهات والأشخاص المتنازعون معروفون. لا شيء مخفياً في تلك الرقع الجغرافية التي أصبحت بحكم المُبعدة عن الأمن والأمان، فهل يحدث كل ذلك عن سابق إهمال وتخلّ تحت مرأى ومسمع القوى الأمنية؟
«كتار فلّوا وتركوا بيوتهم بالمنطقة، ما تحمّلت أعصابهم القواص والمشاكل، يا ريت بقدر إترك متلهم بس ما حدا راضي يستأجر هون ولا حتى يشتري. أسعار البيوت بالليلكي صارت بالأرض، بلحظة بتتحول المنطقة لمدينة أشباح، وبيصير القواص يلعلع. يا حرام على الاولاد شو بيصير فيهم من الخوف. كل يوم بعد يوم بيصير فنعة. الله لا يوفقن زعران، ما عم بيخلونا نعرف نعيش بأمان». هكذا تصف أم محمد التي تقطن قرب دوّار الكفاءات - الليلكي الواقع الأمني المتوتر التي تعيشه بشكل مستمر، وتؤكد أن «كل سكّان الحي يرفضون ما يجري. يلي بيتخانقوا وبيقوصوا معروفين، وما حدا راضي عن يلي عم يعملوه، عم يلعبوا بأعصابنا لعب، وما حدا بيقدر يوقّفهم عند حدهم».

(هيثم الموسوي)

«ما كان في شي! كنت بالمحل عم بيع زبونة. فجأة بلّش المشكل، ما عرفنا شو بدنا نعمل، دار القواص والناس هربت من الشارع، وفي يلي تخبّى تحت السيارة، وأكتر شي حرقلي قلبي أم حاملة ولد على إيدها وعم تركض، كانت رح توقع على الأرض من الرعبة» تروي شاهد عيان ما جرى في منطقة برج حمود قبل أيام عندما وقعت اشتباكات بين مسلحين: «كنا رحنا بشربة ماي، الموت رخيص بلبنان».
«صرلي أكتر من 10 سنين عارض بيتي للبيع، كل يوم في قصة، يوم مخانقة كرمال فان ويوم كرمال وقفة السيارة، ما عاد فينا نتحمل رعبات. بأيام حرب تموز ما خفنا هلقد. اليوم خايفين على اولادنا هني ورايحين على المدرسة يصير عليهم شي. ما في وقت محدد، بلحظات بنصير بساحة حرب، بنقعد بمدخل البيت بين أربع حيطان حتى ما يوصل الرصاص علينا، في أكتر من هيك قهر! عايشين ببيوتنا وما في أمان»، يقول أبو ناصر الذي يقيم في منطقة صحراء الشويفات، مضيفاً أن «لا شيء يمنع الدولة من أن تحمي الناس من زعرنات المحششين والمافيات، بيتعاطوا وببيعوا المخدرات على عينك يا تاجر».
«كل مواطن بعكار بيشعر بفقدان الأمل وبغياب الدولة وإنو الحل بالزعرنة. يشعر الناس بالخوف بخاصة أن عدداً من السياسيين يمارسون نفوذهم على الأرض من خلال مسلحين في مناطق عدة والدولة غائبة. من عشر سنين لورا كان الوضع الأمني أحسن من هلق، رغم أنه لم تكن هناك خدمات للدولة في المنطقة. بعد تدهور الوضع الاقتصادي ومنذ تشرين 2019 بات الشعور المستحكم في نفوس الناس أن تحصيل الحق يكون باليد لعدم وجود الدولة»، يختصر ناصر سليمان الوضع في عكار وضواحيها بهذه الكلمات معبّراً عن قلقه من الأيام المقبلة في ظل غياب الدولة وأجهزتها وخدماتها عن المنطقة.

لا ضوابط ولا رقابة مانعة
«لا يمكن الحديث عن التفلّت الأمني في الضواحي وغيرها من المناطق من دون التدقيق في العوامل التي تعزّز هذه الظاهرة وتساهم بشكل أساسي في تغذيتها وانتشارها في أكثر من منطقة» بحسب العميد المتقاعد أمين حطيط، مشيراً إلى أن «الأمن هو نتاج عامل شخصي ذاتي يتعلق بسلوك الفرد، وهو غالباً ينبثق عن ثقافته وحاجته وفهمه للمحيط. فالظروف الذاتية للأشخاص عنصر أساسي في الأمن». ويلفت حطيط إلى أهمية «العوامل الموضوعية التي لها دور في تخفيف معدلات الجريمة ومنها البيئة الاجتماعية التي يتحرك فيها الإنسان والمنظومة الأمنية الرسمية وغير الرسمية التي تهتم بالأمن. فالشخص الذي لديه ميول إجرامية وبيئته الاجتماعية تنافي هذه الميول، قد يمنعه ذلك من الإقدام على ارتكاب جريمة ما».

(هيثم الموسوي)

وبالنسبة للبيئة الاجتماعية في عدد من الضواحي، يلفت حطيط إلى أنها «لا تصنّف بيئة مانعة للجريمة، نتيجة الترهل الموجود في هذه البيئة بسبب الحاجة والفقر وحرية الحركة من دون ضوابط، والقدرة على ارتكاب الجريمة». كما يشدّد على أهمية ودور المنظومة الأمنية في حفظ الأمن وضبط التفلّت، معتبراً أن «فاعلية المنظومة الأمنية تستطيع خلق الهيبة الرادعة لدى القوى الأمنية، أو أن تمنع وجود هذه الهيبة سواءً في الضواحي أو في مختلف المناطق اللبنانية». ويضيف: «لا يقتصر عمل الأجهزة الأمنية على ملاحقة المجرمين والكشف عن الجريمة، بل لديها دور لا يقل أهمية عن ذلك وهو الدور الرقابي المانع، وإذا كانت المنظومة الأمنية فاعلة عندها تصبح قادرة على منع الأفراد من ارتكاب الجرائم حتى لو كانت لديهم ميول ذاتية لارتكابها».

لماذا تغيب الدولة عن الضواحي؟
«بُعد الضواحي عن أوساط المدن يعني بُعدها عن المراكز الأساسية والرسمية وغياب وجود الدولة واهتمامها وفرض هيبتها» يشرح الأستاذ الجامعي والباحث في الديموغرافيا شوقي عطية غياب الأجهزة الأمنية عن الضواحي، ويضيف: «عدد عناصر القوى الأمنية وعناصر الشرطة وعديد قوى الأمن هو دائماً أقل مما يحتاجه الوضع في الضواحي. فعلى سبيل المثال والتوضيح، إذا كان لكل 1000 مواطن شرطي واحد في المدينة، سيقابله شرطي واحد لكل 10000 مواطن في الضاحية، الأمر الذي يساهم في زيادة التوترات والاضطرابات الأمنية فيها».
تكمن المشكلة برأي عطية في أن «الأمور تصبح في الضواحي ككرة الثلج، لا وجود للدولة ولا للشرطة، فتزداد الجرائم ويتفاقم التفلّت الأمني. في المقلب الآخر، يدفع هذا الأمر الشرطة إلى تجنّب الدخول إلى هذه الضواحي»، مشيراً إلى أن «كل الأحزاب بدها عالم على الأرض، وأغلب الأشخاص يلي مستعدين يكونوا على الأرض ويتدخلوا حتى لو أمنياً بيكونوا من الضواحي». ويتابع: «ما بدّي إحكي عن بيروت، أنا مش ابن بيروت، بدّي إحكي عن منطقتي طرابلس. أكثر جولات العنف في طرابلس كانت تتحرك من أشخاص محسوبين على مرجعيّات سياسية وحزبية محددة، هون بيسهل التحكّم بهؤلاء الأشخاص بسبب الوضع الاقتصادي المتردّي. بأيام الدولار لمّا كان 1500 كان بأقل من 500 دولار يتجنّد أشخاص حتى يكونوا مقاتلين على الأرض. لا شك أن الفقر والعوز هما عاملان مسهلان جداً للانخراط في أعمال التشبيح والحمايات للسياسيين والأحزاب».

الكثافة السكّانية والاكتظاظ
تعدّ الكثافة السكانية العالية والاكتظاظ من الأمور التي تزيد من الضغوطات التي تعيشها الضواحي، ولا سيّما على الصعيد الأمني، يلفت عطية هنا إلى أن «الضواحي في لبنان أفقر من المدن، والطبقات الموجودة داخلها هي في الأصل فقيرة، وفي أغلب الأحيان يكون سكان هذه الضواحي ليسوا من السكان الأصليين، وهذا الأمر واضح جداً في ضاحية بيروت الجنوبية وضواحي طرابلس». ووفقاً لعطية فإن «الضواحي تجتذب الأشخاص الذين يأتون إلى المدينة بحثاً عن عمل وحياة أفضل، إذ إن وضعهم الاقتصادي والمادي يكون عادةً أسوأ من أبناء المدينة، وبسبب أوضاع أمنية محدّدة كالحروب والنزاعات أو النزوح القسري من مناطق أخرى وحتى من البلدان المجاورة كسوريا».
تأخر القضاء في إصدار الأحكام القضائية بحق الموقوفين والمطلوبين يشجع على الجريمة


ويخلص عطية إلى أن «الفقر هو واحد من أهم الأسباب التي تؤدي إلى أمور أخرى قد لا تُحمد عقباها، واللافت في لبنان أن الأُسر الأكثر فقراً هي الأكثر إنجاباً، فمقابل 6 أو 7 ولادات يومياً في الضواحي هناك ولادة أو اثنتان في المدينة بحسب إحصاءات العام 2023. هذا الأمر يسبب ضغطاً سكانياً سواءً في البيوت أو في الأحياء، ويدفع بالأهل إلى السماح لأولادهم بالنزول إلى الشارع واللعب مع أترابهم، وتكون النتيجة بُعد رقابي للأهل عن الأولاد في الشوارع حيث تنتشر المخدرات والسلوكيات الإجرامية من دون حسيب ورقيب».

دور محدود للبلديات
«يوجد تفلّت أمني في كل مناطق لبنان، وليست هناك منطقة لبنانية آمنة بالمطلق، والتفلّت نسبي بين منطقة وأخرى لأسباب عدة، والوضع السياسي العام يؤثر على الوضع الأمني من دون أدنى شك» يختصر نائب رئيس بلدية برج البراجنة زهير جلول حال البلديات ودورها إزاء ما يجري، مؤكداً الحاجة إلى «سلطة مركزية قوية تمتلك القدرة على ضبط الأمن بشكل أساسي من أجل استقامة كل إدارات الدولة وصمودها».
وحول دور البلديات في الحدّ من ظاهرة التفلّت الأمني والجرائم، يلفت جلول إلى أنه من ضمن صلاحيات شرطة البلديات تأمين الأمن للقاطنين في نطاقها البلدي. وعندما تكون هناك حالات مخلّة بالأمن كالسرقة والقتل تتحوّل شرطة البلدية إلى ضابطة عدلية، بمعنى أنها تستطيع أن تعتقل المتلبّس بالجرم المشهود وأن تقوم باستجواب أوّلي وترفع تقريراً لرئيس البلدية الذي بدوره يرفع تقريره إلى المحافظ، ويتم التواصل أيضاً مع المخافر الموجودة ضمن النطاق البلدي ويسلّم الجاني إلى الجهات الأمنية التي تباشر إجراءاتها».

الفقر والعوز هما عاملان مسهلان جداً للانخراط في أعمال التشبيح والحمايات للسياسيين والأحزاب


ولكن هل لشرطة البلديات دور فاعل في ضبط الأمن؟ يجيب جلول: «تعاني البلديات في كل لبنان كما كل مؤسسات الدولة، ومعاناتها كبيرة بسبب النقص في عديد الموظفين وتحديداً في عديد شرطة البلديات الذين ترك قسم منهم العمل بسبب تدنّي الرواتب مقارنة برواتب القطاع الخاص».
ويتساءل جلول: «كيف يمكن للبلدية التي يوجد فيها الكثير من الأحياء والشوارع أن تقوم بدورها سواءً على الصعيد الأمني وغيرها من الأدوار في ظل الواقع الحالي الصعب؟» ويخلص إلى أن «دور البلديات على صعيد الأمن محدود يرتبط بإمكانياتها المادية والبشرية، ولكنه بالتأكيد ليس دوراً معدوماً».

الإفلات من العقاب تشجيع على الجريمة
«تأخر القضاء في إصدار الأحكام القضائية بحق الموقوفين والمطلوبين يشجع على الجريمة» يؤكد حطيط، مشيراً إلى أن «استمرار هذا السلوك القضائي قد يؤثر على ازدياد معدّلات الجريمة، فالأحكام القضائية السريعة من شأنها أن تكون رادعة عندما يُعلن عنها بشكل واضح».
ويحذّر من التدخلات بمختلف أشكالها سواءً من الجهات السياسية أو المرجعيات الدينية لأن «التدخل للإفلات من العقاب هو تشجيع على الجريمة، ومن يحمي مرتكبي الجرائم سيكون شريكاً في جرائمهم اللاحقة».
ويختم حطيط بالتأكيد على أن «العنصر الوحيد لمصلحة الأمن اليوم هو تماسك الأجهزة الأمنية. لكن، إلى متى ستبقى هذه الأجهزة متماسكة في ظل انعدام أدنى المقوّمات الأساسية لعملها كالبنزين والمازوت والطعام للعسكريين؟ الأمر الذي قد يؤدي إلى تآكل الوضع الأمني أكثر فأكثر مع الأيام».



شربل: لا تقصير والدولة في الضاحية
«لا يمكن فصل الوضع الأمني عن الواقع السياسي الحالي في لبنان، فالبلد لا يوجد فيه رئيس جمهورية، ويقتصر عمل الحكومة على تصريف الأعمال. الوضع الاقتصادي صعب جداً، والمواطن محروم من أدنى حقوقه من طبابة واستشفاء وحتى من التعليم والعمل. لا يمكن النظر إلى ما يجري من توترات أمنية وحوادث خارج هذا السياق المأزوم في البلد، يضاف إلى ذلك وضع مؤسسات الدولة وأجهزتها الأمنية»، يقول وزير الداخلية السابق مروان شربل، معتبراً أن «الوضع الأمني في لبنان لا يزال ممسوكاً، ورغم كل ما يحدث يعدّ أحسن من مقبول. صحيح أننا نسمع بحوادث وجرائم لكن سرعان ما تُلقي القوى الأمنية القبض على المجرمين، وليس آخرها جريمة خطف المواطن السعودي». ويتابع: «تتفاوت التوترات الأمنية بين منطقة وأخرى، والمشكلة تكمن في كثرة المسبّبات التي تدفع الناس إلى ارتكاب الجرائم. ليس تبريراً، ولكن هناك من يعاني من الفقر والجوع وتحديداً في القرى والضواحي، والدولة عاجزة عن تأمين الطعام حتى للعسكريين».

(الضاحية الجنوبية ــ هيثم الموسوي)

يرفض شربل اتهام القوى الأمنية بالتقصير، ويؤكد أنها «تستمر في عملها وتقاوم للبقاء رغم عديدها المحدود»، والمشكلة برأيه «سياسية انسحبت على الأمن. يجب إيلاء المناطق النائية والضواحي اهتماماً أكبر من أجل تحقيق الإنماء المتوازن فيها وتوفير فرص عمل، وعلى الدولة تأمين احتياجات القوى الأمنية لتسهيل مهامها الأمنية».
وحول وجود مناطق يُمنع على الدولة دخولها، يسترجع شربل تجربته في وزارة الداخلية مؤكداً أنه «لا يوجد مكان ممنوع أن تقترب إليه القوى الأمنية»، مشدداً على «ضرورة أن يكون هناك حرص من قِبل الأحزاب والجهات السياسية على ملاحقة المطلوبين، لأن تغطية المجرمين سترتد سلباً عليها وستؤثر على استقرارها وأمنها».